اسمحوا لي بالقول إنّه ليس لأحد أن يحسد وزيراً لبنانياً في هذه الأيام على وقوفه بين الوزراء العرب. فهو يقف حتماً في دائرة الاتهام، صحّ هذا الاتهام أو اعتراه نفاد الصبر.
نعم لبنان اليوم متهمٌ بعروبته كما لم يتّهم منذ عشرات السنوات، وهو الذي دفع ثمن تثبيت هويته العربية حرباً أهلية كلّفت اللبنانيين مئتي ألف قتيل و15 عاماً من الحروب الأهلية المتّصلة. وهو يدفع، منذ الساعة الواحدة ظهيرة الرابع عشر من شباط 2005، أثمان تثبيت لبنانيته المتصالحة مع العرب، والمتكاملة مع مصالحهم الاستراتيجية.
لم نصل إلى اللحظة التي يعيشها لبنان اليوم دفعة واحدة، بل تدرّجنا وتدرّجت الأزمة في مراحل عدة، كان اغتيال شهيد لبنان والعرب رفيق الحريري لحظة من لحظاتها الكثيرة. فمن اغتال الرئيس رفيق الحريري حاول اغتيال عروبة لبنان… وما زال لبنان يواجه، ومن اغتال رفيق الحريري حاول اغتيال اللبنانية الرحبة التي جسّدها… وما زالت هذه اللبنانية تواجه، برغم كل المظاهر التي تدفع استنتاجات معاكسة(…).
ومن الظلم اتّهام لبنان بعروبته، الذي اعترف أمامكم بأنّ حكومته لم توفّق بإدارة الموقف خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وخلال اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي في جدّة…
من الظلم اتهام لبنان هذا بأنّه بات، بشكل نهائي، في موقع العداء للعرب، واستنتاج أنّه يستوجب التخلّي عنه دون تفريق بين أكثرية عربية الهوى والهوية وبين أقلية كبيرة وصاخبة تتولّى تنفيذ مشروع يناقض مصالحها أوّلاً قبل مصالح لبنان والعرب.
إنّ محاسبة لبنان، مهما بلغت مشروعيتها، لا تتم بتجميد اللحظة الراهنة واقتطاعها من شريط الأحداث الممتدّ، ليس من 14 شباط 2005 وحسب، بل منذ عام 1980، حين بدأ يتضح أنّ لإيران مشروعاً متكاملاً في المنطقة، تجيّر له كل طاقاتها، حتّى وصلنا إلى لحظةٍ يتبجّح مسؤول إيراني رفيع بأنّ بلاده تحتلّ أربع عواصم عربية.
ماذا فعلنا جميعا، وماذا فعلنا كعرب مجتمعين؟
سأكشف لكم أمراً: الكثير مما عشته وخبرته، في موقعي كوزير لداخلية لبنان، تمنعني المسؤولية من تداوله علناً، لكنّني سأستعين بالتلميح والإشارة، والنباهة كبيرة ومتوفرة.
حاولتُ خلال سنتين وأكثر أن أشخّص مكامن الضعف في البنية الأمنية اللبنانية وأن أطلب المساعدة بشكل محدد ودقيق، من دون أن أفلح بالحصول إلا على القليل القليل من التعاون، وسأظلّ أطلب. ولولا الهبة السعودية الثانية التي أعلن عن وقفها لاحقاً، لما كنّا حصلنا على أيّ شيء. كما حاولتُ أيضاً، خلال سنتين وأكثر، أن أشخّص مكامن الضعف في البنية السياسية، وسط الاشتباك الدائر في لبنان المنطقة، وأن أطلب المساعدة أيضا بشكل محدد ودقيق، ولم ألقَ إلا الكثير من اللياقة وحسن الاستماع والقليل القليل من الاستجابة العملية.. دققتُ الكثير من الأبواب، في الدول العربية وفي الدول الغربية، وحاولت، وهذه النتيجة التي وصلت إليها: اليوم أجدني في هذا المؤتمر أمثّل بلدا مطلوباً منه، بكلّ إمكاناته البسيطة، فجأة ومن دون سابق إنذار، أن يهدم سياسة إقليمية عمرها أكثر من ثلاثين عاما. سياسة الدولة نفسها التي تقاتل في اليمن وسوريا والعراق وغير مكان… لكن برغم كل الإمكانات الضخمة التي تواجهها، أصرّ وأقول، إنّه في النهاية، سننتصر حتماً لأن لا أحد يستطيع تغيير هوية العرب ووجدانهم وتاريخهم.
لقد جرّبنا في لبنان نظرية «قوّة لبنان في ضعفه»، فكانت كارثة علينا، لا سيما أنّها عنت في العمق التنصّل من مسؤوليات لبنان العربية، قبل أن نعود وندفع ثمن فائض تحمّله هذه المسؤولية، نيابة عن العرب أجمعين. ثم حاول من حاول، طبعاً نتحدّث عن الفترة الفلسطينية، ردّاً على هذه النظرية، أن يربط لبنان بمشاريع تفوق طاقته، فدفعنا، ردحاً من الزمن، ولا زلنا ندفع إلى اليوم، أثمان نظرية أنّ «ضعف لبنان في قوّته». قوّته الخارجة على الدولة التي لا ترتدّ عليه إلا إضعافاً للمؤسسات والمجتمع والكيان.
بين «قوّة لبنان في ضعفه» و «ضعف لبنان في قوّته»، آن لنا كلبنانيين وعرب أن نتواضع ونتصارح ونقول إنّ «ضعف لبنان في ضعفه»، وأنّ ضعفه يستدعي الوقوف الدائم إلى جانبه، أيّاً كانت خيارات المواجهة الموازية لمسؤولية عدم التخلّي عن لبنان. فالواحدة لا تلغي الأخرى.
المعادلة واضحة: لا تفهُّمُ لبنان يُنهي خياراتِ المواجهة مع من باتوا غرفة عمليات للعدوان على أمن العرب، ولا خياراتُ المواجهة تُلغي مسؤولية العرب اتجاه لبنان.
نعم أخطأنا حين ظنّنا أنّ صبر العرب علينا بلا حدود، وأنّ المعالجات المجتزأة كفيلة بتقطيع الوقت. لكنّنا، وهذا هو الأهمّ، لسنا على الجانب الخطأ من التاريخ، الذي يصنعه العالم بسيف الحزم، وبمواجهة صلبة تُبذل فيها الدماء والأنفس والأموال.
لبنان، مهما غلبته المحن، وتحالفت عليه نقاط ضعفه، لن يكون شوكة في خاصرة العرب، لن يكون شوكة في خاصرة العرب.
(]) من كلمة وزير الداخلية في الدورة الـ33 لمؤتمر وزراء الداخلية العرب