IMLebanon

لا تأسروا الحرّية… أتركوا هذا الشــعب يتنفّس!

 

محاكمات محاكمات لم تلوِ الأقلام

لا تأسروا الحرّية… أتركوا هذا الشــعب يتنفّس!

هناك صحافة سوداء وصحافة بيضاء وهناك من لم يعرف في عمره، من عالم الصحافة، سوى اللون الأحمر القاني. فماذا حين تكتوي الصحافة بلغةٍ لا يفهمها “صحافيو البلاط” ولا من لم يكتبوا في عمرهم بقلمٍ مجبول بالعرق والجرأة وبرفضِ الإستسلام للصمت. والصمتُ موت. فهل الصحافي وحش أم أنه يفترض أن يصبحَ وحشاً إذا لامس القمع حفافي القلم والوطن والعدالة والمصير؟ صحافيون كثيرون حوكموا على مرّ استقلال لبنان لكنهم أبوا إلا أن يقفوا متراساً ضد فوهات من أراد إطلاق النار على الكلمة. اليوم، في العاشر من الشهر العاشر، في يوم محاكمة “نداء الوطن”، جولة في كتاب غسان تويني “سرّ المهنة وأسرار أخرى” علّ من نسي يتذكر أن للصحافة أسراراً لن يفقهها من سها عن بالِهِ أن الصحافة لا تكون إلا إذا ثابرت على استيلاد، حتى من قلب القهر الكبير، أحلام جديدة!

فلنبدأ من الأخير من سؤالٍ في فهرس “سرّ المهنة وأسرار أخرى” يطرح: صحافة ُ المستقبل… أين فضاؤها؟ تنبه غسان تويني الى هذا السؤال باكراً جداً وهو الذي أجاب على سؤالٍ طُرح عليه في طيات الكتاب: ألم تيأس؟ ألم تتعب؟ أجاب: وكيف ييأس الصحافي، والرقابة على الناس همه، وإذا يئس… لا إذا راقب الناس… مات هما؟

 

اليأسُ موت آخر. الصحافي- الصحافي يجب ألا ييأس لأنه لن يجد مهنة غير مهنته أما إذا كان طارئا فليفعل ما يشاء.

 

فلنعدّ الى كلام عميد الصحافة اللبنانية رداً على سؤال طرحه عليه “أنسي الحاج” يقول: هل من الممكن أن تعود الصحافة صانعة حرية لا مجرد متنعمة بالحرية؟ أجابه: يبدو لي أن السقراطية يجب أن تكون مثال الصحافة. رجل مرح في ظاهره هازئ ماجن مستخفّ مشكك يتجول في ساحة المدينة، يجالس الشباب في صالون حلاق أو حانوت تاجر، ثم حول المأدبة يقول ويعلن أنه لا يعرف الحقيقة، إنما دوره كالمولدة (القابلة القانونية) يستخلص من عقول محاوريه الحقيقة. والسقراطية صناعة حقيقة كما يصوغ الجوهرجي الاحجار الكريمة. ويجب ألا تستمرّ الصحافة منفعلة بالأحداث مكتفية بنقل أخبارها… إنما أن تنقل أصداء الأحداث من غير نقصان إنما بزيادة: زيادة النقد.

 

فلتنتقد الصحافة الأحداث. غسان تويني قال ذات يوم هذا. كثيرون سواه قالوا ما قال… قبله؟ بعده؟ لا يهم… الأهم أن الصحافة لا تكون إذا سردت ما يريده الحاكم وأغفلت ما يشعر به المواطن.

 

فلنغص أكثر في أسرار من أسرار قالها غسان تويني عن المهنة ردا على سؤال عميق عريض: لمن تدقّ أجراس الحريّة؟

 

لمن؟ سؤالٌ يُطرح اليوم كثيرا وهو طالما طُرح قبل وسيبقى يُطرح ويُطرح طالما هناك متسلط تُزعجه أصوات الأجراس… فلنقرأ في كتاب غسان تويني: الحريّة شرطها الديموقراطية وهي بدورها شرط وجود الصحافة، فلا صحافة بدون حريّات ولا حريّة بدون مناقشة وحوار ومنافسة ومضاربة على كل صعيد بين الصحف… والتخطيطُ للإحتكار والوصول الى الصحيفة الواحدة في لبنان هو إلغاء للصحافة. والنهار لا تريد الإنتحار. حيث لا منافسة ولا إنتشار بل إنتحار.

 

الصحافي الجيّد، في رأي العميد الراحل، نادرا ما يُصبح في نظامِنا رجلاً سياسياً. صحيح جدا.

 

في 6 حزيران 1952 صدر مرسوم موقع من رئيس الجمهورية آنذاك بشارة الخوري حمل الرقم 8599 جاء فيه: بناء على الدستور اللبناني، وبناء على أحكام المادة 65 من قانون المطبوعات، وبناء على اقتراح وزيري الداخلية والأنباء وبعد الإستماع الى رأي مجلس الوزراء، ولمّا كانت جرائد النهار وبيروت وصدى لبنان والتلغراف والبيرق والنداء قد نشرت في أعدادها الصادرة في 6 حزيران 1952 المقال الذي كانت قد نشرته جريدة الأنباء والذي من أجله منعت هذه الجريدة من الصدور، يرسم ما يأتي:

 

المادة الأولى، توقف جرائد النهار وبيروت وصدى لبنان والتلغراف والبيرق والنداء عن الصدور لمدة ثلاثة أيام.

 

المادة الثانية، يُنشر هذا المرسوم ويُبلّغ حيث تدعو الحاجة.

 

ما رأيكم؟

 

ما تعليقكم؟

 

هل هو حكمُ القوي على الضعيف؟

 

خطيرة ٌ هي بعض القرارات التي اتخذت في لحظة ما، في لحظاتٍ ما، في حق الصحافة والصحافيين في لبنان!

 

فلنتذكر كي لا ننسى

 

يُتابعُ غسان تويني سرد معركة الحريات في كتابٍ قال فيه الكثير: “معركة الحريات” اسم كبير لأشياء كنا نظنها ونتعامل معها، في حينها، على أنها صغيرة وطبيعية، نتيجة المسلك الذي اخترنا نظرياً، في بلد ديموقراطي برلماني، لا مبرر لمعركة حرّيات تخوضها الصحافة وتقود بها الرأي العام والشعب، لأن مركز المعارضة الطبيعي مجلس النواب. ولمّا كانت انتخابات 25 أيار 1947 قد زوّرت ما كنا نسميه “الإرادة الشعبية” وألغت دور المعارضة الفعال في مجلس النواب فقد إنتقل الدور، والزمام، الى الصحافة كما تكون الحال في الدول المحتلة أو المستعمرة، أي كما كانت الحال في لبنان أيام العثمانيين وقد هاجرت الصحافة المناضلة لتطالب بالإستقلال والحريات من مصر أو فرنسا، ثم أيام الإنتداب الفرنسي في العشرينات والثلاثينات.

 

وقائع “معركة الحريات” وثقها غسان تويني وحكى عنها وفيها الكثير… ويقول: تحوّلت إفتتاحياتي من الأسلوب البحثي شبه الأكاديمي الى الأسلوب الإنتقادي العنيف المتميز بابتكارات منقولة من زادي غير الصحافي. ويتوقف عند اعدام أنطون سعادة: وضعتُ بيدي عنواناً ضخماً مثيراً ثم كتبت مقالاً افتتاحياً لا أظنه يؤيد محاولة الإنقلاب… ومع الصباح أخذت عدداً من المطبعة أقرأه ثم ذهبت أنام لأستيقظ وأنا في قبضة شرطة الجيش… ومن المحكمة الى السجن فوراً، وفق القوانين وأصول المحاكمات العسكرية وفي عربة السجن كجورج نقاش وكسروان لبكي، وصور في الصفحات الأولى وضجة عالمية وأضخم محاكمة وحشد للمحامين السياسيين. وقضيت في السجن شهرين كاملين من أصل عقوبة ثلاثة أشهر، رافضا توقيع طلب عفو كان يعرض عليّ يوميا…

 

هكذا سُجن غسان تويني

 

هل لك أن تروي أو توجز لجيل لا يعرف ذلك، ما لا يزال عالقا في ذاكرتك من المحاكمات والسجون في تلك الحقبة؟

 

سؤال طُرح على عميد الصحافيين… أجاب عليه: في زمنٍ تشحّ فيه المرافعات أمام القضاء، عسكرياً ومدنيا، ويتضاءل إهتمام الرأي العام الملوث بإفرازات الحرب التي مسخت الحقوق بل القوانين، كل القوانين، ارى أن محامينا الكبار يستحقون على الأقل أن نشفع حديثنا عن المحاكمات ببعض نصوص مرافعاتهم…

 

وها قد سمّى: كميل شمعون، بهيج تقي الدين، شاكر أبو سليمان، فؤاد بطرس، حبيب أبي شهلا، جان جلخ، صلاح لبكي، نعيم مغبغب، عبدالله قبرصي، فؤاد رزق، شفيق الوزان، مخايل ضاهر، أنطوان رباط، كريم بقرادوني، غبريال الدبس، وليم عسيلي…

 

هناك محامون وقفوا بجرأة ويستحقون ألا ننساهم…

 

يغوص غسان تويني في المحاكمات التي أراد منها المتسلطون القضاء على الحريات ومما قال: لم أعد أذكر تفاصيل المحاكمات من فرط ما تكاثرت. أعرف أن واحدة منها، هي الأولى بعد السجن الأوّل، خرجت منها بحكم براءة “مطنطنة” سبقت شهوراً طويلة في السجن… واتى يوم طويل آخر من المرافعات، مهرجان بلاغة كانت قمته صرخة النقيب جان جلخ “أتركوا هذا البلد يتنفس… تأسرون الحرية وكأنكم تحاولون أسر الهواء فلا يتنشق اللبنانيون”.

 

كثيرة ٌ هي محطات المحاكمات المرّة كما العلقم. عناوين نُشرت في زمان معركة الحريات، فيها عنفوان، ما زال صداها يتردد: “سنظلّ نمارس حقوقنا ونحال للقضاء الى أن يستطيع الشعب ممارستها دون أن يحال إليه”. “ان الذي يؤمن بالكلمة لا يحقد، أما إذا حقرنا سلطة فلأننا نحبّ وطناً”. “ممارسة الحقوق الدستورية ليست جريمة… وإن أصبحت طريقاً للتشريد والسجن”. “النائب العام يتراجع عن تهمة القدح برئيس الدولة لكنه يطلب يتعطيل النهار لارتكابها جرائم متمادية”. “كما أن الحقّ يدرك بالفكر كذلك الفكر لا يحيا إلا إذا نعم بالحرية”. “نحن شعب نأبى على الدولة أن تصير إلهاً ومعبوداً”.

 

غسان تويني أرسل باسم الشعب اللبناني مرات الى السجن. صحافيون كثيرون سجنوا باسم الشعب اللبناني بعد أن انبرت أقلامهم لأجل هذا الشعب. غريبٌ هو أمر الحريات. غريبٌ هو أمر لبنان. غريبٌ هو التاريخ والقلم والنضال والعدالة. غريبون هم الظالمون… لكن، في كلِ هذا المشهد، يبقى ذاك الهتاف الجميل، من قلب قلب الناس، في كلِ مرة يُبرأ فيها صحافي: ليحيا العدل.

 

ثقوا أن في الدنيا عدالة… قد تتأخر… لكنها موجودة في كلِ إنسان- إنسان. ألا يُقال: لن تكون عادلاً ما لم تكن إنساناً؟