لا شك في أنّ ما حصل يوم 18 كانون الثاني 2016 أثبتَ للجميع أن مرحلة جديدة بدأت لدى المسيحيين من خلال تفاهم بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» أو بين القواتيين والعونيين، وهما أكبر حزبين مسيحيين في لبنان وأكثرهما تمثيلاً بحسب الانتخابات النيابية الأخيرة. وبَدا للجميع انّ ما قبل «تفاهم معراب» هو غير ما بعده، فماذا حصل حتى عادا إلى نقطة الصفر؟
المسيحيون معروفون عبر تاريخهم أنّ من كان منهم في السلطة كان سلطوياً، ويتّبع سياسة تحطيم الخصوم، ولاسيما منهم الموارنة. ولا ينسى اللبنانيون النزاعات المرّة والمريرة التي خاضها هؤلاء الزعماء باسمهم. والجميع يذكرون جيداً النزاع بين بشارة الخوري وإميل اده (الدستوريون – الكتلويون)، وبين الشمعونيين والشهابيين، الكتائب وسليمان فرنجية، وتوّجت هذه النزاعات بالحرب بين ميشال عون وسمير جعجع التي كانت الأكثر قساوة وعنفاً مما أدى إلى ضرب العمود الفقري للمسيحيين والتواء ظهرهم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وبنيوياً، خصوصاً انّ هذه المواجهة تزامنت من حيث التوقيت مع ظروف إقليمية ساهمت في تأجيجها. وقد امتدت مفاعيلها المدمّرة من 1990 وحتى 2016.
الأنانية والفردية تطبعان ممارسة العمل السياسي لدى القادة، ومن بينهم المسيحيون، الأمر الذي أدى إلى إنهاك المسيحيين نتيجة النزاعات والطموحات الشخصية، وجَعل أبناء المجتمع المسيحي وقوداً لها. وعندما ذهبت القيادات برزت نتائج هذا الغياب، فحدث فراغ قيادي في «الصف الأول». وباءت بالفشل محاولات أبناء «الصف الثاني» الارتقاء إلى الصف الأول، ولم تلقَ الصدى الجماهيري المطلوب لدى المسيحيين.
جزء كبير من القيادات التي تولّت القرار لم يكن على مستوى التطورات وعمقها في العالم، ولم يدرك انّ هذا العالم أصبح في سياسته معقّداً إلى درجة انه قادر على ان يسقط من حسابه مصائر شعوب صغيرة، في عملية تضارب المصالح او التقائها. وهذا ما جعل عدداً من القيادات يجنح إلى خيارات ومغامرات دفع الشعب ثمنها، وخصوصاً المسيحيين، الذين كان بعضهم يراهن أكثر من غيره على حصول تطورات كبرى في المنطقة.
إقتنع طرفا «تفاهم معراب»، أي «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، بأنّ تركيبة الدولة الحالية، بين حرب انتهت وسلام لم يبدأ بعد، هي تركيبة هشّة، لذلك كان لا بدّ من التوصل إلى اتفاق بين الحزبين الأكثر تمثيلاً للمسيحيين بغية استعادة الحقوق وإغلاق ثغرات الانقسام بين المسيحيين التي يستغلّها بعض «الشركاء» في الوطن للانقضاض على هذه الحقوق.
حقاً انّ الوفاق بين المسيحيين ليس سهلاً، بل انّ اقتحام دائرة الوفاق مخيف وذي رهبة. تطلّب إقداماً وشجاعة وجرأة من الحزبين الكبيرين وبعضاً من الجنون، تماماً مثل اقتحام دائرة المعارك العسكرية.
26 عاماً من بناء الجدران والحواجز في الرؤوس والنفوس والمناطق بين القواتيين والعونيين. بالحقد تمّ تدعيمها أو بالاسمنت المسلّح. وعمرت المخيّلات قصصاً ودواوين حول «الآخر»، وشقع التباعد مسافات غربة بين الـ»هنا» والـ»هناك»، فنشأ جيل وترعرع آخر على جهل «الأخ» الثاني في العائلة المسيحية الواحدة. تقوقع كل حزب على نفسه وصار الحزب الآخر بالنسبة اليه شيئاً ما بعيداً، غريباً، إضافياً، لا حاجة أساسية ولا ملحّة إلى التواصل معه، إلى التعايش معه، إلى التكامل معه من ضمن العائلة الواحدة والمجتمع الواحد والكنيسة الواحدة.
المجموعتان حاربتا بعضهما بعضاً من أجل هدف، وهدفهما كان التغيير. التغيير إلى ما يعتبرونه الأفضل، كلّ من زاويته، حتى اقتنعا بعبثيّة هذه الحرب، فكانت الضرورة بإعلان «تفاهم معراب» في 18 كانون الثاني 2016، خصوصاً أنّ الطرفين أدركا نتيجة الحروب العبثيّة التي خاضها اللبنانيون على مر تاريخهم، وبشعارات متنوعة ومختلفة، ان أي خلاف بين أي مكوّن لبناني يشكل تهديداً حتمياً لمصير الوطن واستقلاله، فكيف اذا كانت هذه الخلافات داخل البيت المسيحي؟ وقد أدّى المسيحيون في تاريخهم، ومنذ عصر البطريرك الطيّب الذكر الياس الحويك، دورهم الرائد في تحقيق قيامة لبنان الكبير والحفاظ على استقلاله، وفي إضفاء لمسة خاصة على هذا الوطن، مَيّزته عن بقية الدول العربية، وهذا ما يقرّه اللبنانيون من الطوائف الأخرى ويحرصون عليه.
مصالحة «القوات» و«التيار» التي كانت نقطة تحوّل أساسية في المشهد السوسيولوجي-السياسي للمجتمع المسيحي تتعرّض كل يوم للاهتزاز، ربما لا مفرّ من القدر المحتوم ولعنة المسيحيين مستمرة مع طموحات سياسية تعيد سيناريو الاستئثار ومناكفات المحاصصة، وهذا الأمر يبرر الانقلاب على الشق السياسي لـ«تفاهم معراب»، بل نرى عدم التزام فاضح بإعلان النيّات الذي وعد بمستقبل يسوده التنافس السياسي الشريف أو التعاون السياسي، وما نراه يومياً من سجالات بين الحزبين على كل المستويات الرسمية والشعبية لا يتلاءم مع النيات الحسنة.
لا يزال الطرفان متمسكين بعبارة «المصالحة»، لكنّ الواقع يؤكّد انها أفرغت من مضمونها. القواتيون يشكون من انقلابات باسيل الدائمة على كل التفاهمات والخيارات التي تتناقض والإصلاح الحقيقي، والعونيون يتّهمون وزراء «القوات» بعرقلة مشاريعهم الإصلاحية والإنمائية بدلاً من التعاون معهم، على رغم من انّ جعجع أثنى على كثير من الخطوات التي اتخذها وزراء «التيار». مع ذلك يتحسّس العونيون من كل ملاحظة سلبية لـ«القوات» ولو كانت علميّة وواقعيّة.
التواصل الرسمي بين الفريقين يبدو مقطوعاً، فلا اللجنة الموكل اليها التنسيق تقوم بعملها، ولا عرّابا المصالحة الوزير السابق ملحم رياشي والنائب إبراهيم كنعان يقومان بمهمات رسمية في هذا الاتجاه، بل حافظا على علاقتهما الشخصية من دون أن يوفّقا بالمحافظة على التفاهم. لكن هذا لا يمنع من وجود تقاطعات بين الفريقين داخل مجلس الوزراء أو في المجلس النيابي. وتشير مصادر الحزبين إلى انّ غياب آليات التنسيق لم تؤد للعودة إلى ما قبل المصالحة، لذلك يصرّان على استمرار المصالحة والاشتباك على الملفات، ليس بالجملة إنما بالمفرّق.
لا شك في انّ بكركي قادرة على إعادة ربط ما انقطع بين الفريقين، ومصلحة المسيحيين تقتضي إيجاد آلية منتظمة لإعادة الاعتبار لمصالحة صحّحت الماضي الدموي الأسود الذي أثقلَ كاهل المواطن وملأت الفراغ بالمؤسسات الرسمية بدءاً برئيس الجمهورية.
الرأي العام المسيحي لم يعد يتحمل مزيداً من التشرذم، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها مع شركائه في الوطن، وتنفّره السجالات والمزايدات من هنا وهناك.