تميّزت الانتفاضة الإيرانية المستمرّة منذ أيّام عدّة بأمرين. الأوّل انطلاقها من مدينة مشهد المحافظة، واتساعها لتشمل رقعة جغرافية كبيرة، والآخر جرأة الشعارات التي رفعت فضلاً عن أنّ المتظاهرين أقدموا على إحراق صور لرموز إيرانية كبيرة مثل آيه الخميني، مؤسس «الجمهورية الإسلامية» و«المرشد» علي خامنئي. كانت صور الخميني وخامنئي، في الماضي القريب، من النوع الذي لا يُمسّ. أمّا الرئيس روحاني، فقد تكشفت حقيقته وتبيّن أن اعتداله ورغبته في الإصلاح ليسا سوى قناع يخفي شخصية متطرّفة لا مهمّة لها سوى استيعاب غضب الإيرانيين ونقمتهم على النظام.
هل تؤدي الانتفاضة الحالية إلى قلب النظام؟ من الصعب التفاؤل بذلك، بل من الصعب التجرؤ على التفاؤل. لكنّ الأكيد أنّ ما تشهده إيران حالياً يؤكّد أمراً واحداً وهو أن لا مستقبل لهذا النظام الذي لم يدمّر مستقبل الإيرانيين فحسب، بل لعب أيضاً دوراً أساسياً في تخريب المنطقة كلّها واستنزاف ثرواتها فضلاً عن تدمير النسيج الاجتماعي في دول عربية عدّة من بينها العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لم يعد السؤال هل يسقط النظام الإيراني؟ السؤال هل يسقط قبل أن يوصل المنطقة إلى مرحلة يصعب فيها استعادة معظم دولها حدّاً أدنى من السلم الداخلي؟
ولكن ما الذي يمكن توقّعه من نظام في حال هروب مستمرّة إلى الأمام بسبب عجزه عن تلبية أي من المطالب الشعبية التي رفعها وذلك قبل إسقاط شاه إيران في العام 1979؟ بدل أن يعمل النظام منذ البداية على الاهتمام بالإيرانيين، إذا به يركّز على «تصدير الثورة» معتمداً قبل أيّ شيء آخر على إثارة الغرائز المذهبية التي رسّخت التباعد بين المذاهب الإسلامية وأدخلتها في لعبة المزايدات التي لم تخدم سوى التطرّف.
كانت نتيجة أقلّ بقليل من أربعة عقود على قيام «الجمهورية الإسلامية» في إيران أن نصف الشعب الإيراني يعيش تحت خطّ الفقر. كيف لبلد أن يتقدّم بعد أن يضع حكّامه في أولوية الأولويات شعار «تصدير الثورة»، وهي ثورة فاشلة أصلاً. يعود هذا الفشل أوّلاً إلى أنّه ليس ما لديه ما يقدّمه لا للإيرانيين ولا لدول الجوار. قبل نجاح الثورة التي أطاحت الشاه، وعد الخميني الإيرانيين بأن لا يعود بلدهم يعتمد أوّلاً وأخيراً على الدخل الآتي من النفط والغاز. بعد تسعة وثلاثين عاماً من قيام «الجمهورية الإسلامية»، ارتبط الاقتصاد الإيراني أكثر فأكثر بالنفط والغاز وأسعارهما.
باختصار شديد، لم يكن لدى النظام الإيراني، في أي وقت، نموذج يستطيع تقديمه إلى الإيرانيين وإلى دول المخيط باستثناء «تصدير الثورة»، أي تصدير لعبة تقوم على إثارة الغرائز المذهبية تحت شعارات من نوع «الموت لأميركا» و«الموت لإسرائيل». لم تمت أميركا، بل زادت قوّة وتحوّلت إلى القوة العظمى الوحيدة في العالم. تمارس أميركا لعبة التفرّج على ما تؤدي إليه الممارسات الإيرانية التي تقوم على نشر البؤس في كلّ مكان تستطيع بلوغه. أميركا هي المستفيد الأوّل من الأطماع الإيرانية ومن انتشار الميليشيات المذهبية التي باتت ترمز إلى السطوة الإيرانية والقدرة على الذهاب بعيداً في تنفيذ مشروع توسّعي يقوم على تغيير طبيعة المجتمعات العربية وجعلها تسير نحو مزيد من التخلّف. ليس العراق وسوريا ولبنان واليمن سوى نماذج على ما يمكن أن يخلّفه التدخل الإيراني في شؤون هذه الدولة العربية أو تلك.
أمّا إسرائيل، فبعد تسعة وثلاثين عاماً من قطع إيران العلاقات معها، فهي تجد نفسها في أحسن أحوالها. تكفي الخدمة التي قدّمتها لها إيران التي دعمت العمليات الانتحارية لـ«حماس» وقوّتها على «فتح» كي تتملّص من أي عملية سلمية من أيّ نوع كان وتتابع الاستيطان في الضفّة الغربية. الاستيطان في أساس السياسة الإسرائيلية التي تستهدف ضمّ القدس وأجزاء من الضفّة وتكريس الاحتلال إلى ما لا نهاية على حساب شعب لا يمتلك الحدّ الأدنى من حقوقه الوطنية.
حيال كلّ ما قامت به إيران التي جعلت دول الخليج العربي في موقف دفاعي حملها إلى التقرّب أكثر من الولايات المتحدة، كان هناك ارتياح أميركي وإسرائيلي واضح للدور الإيراني على كلّ صعيد. بفضل إيران ورغبتها في الانتقام من العراق والعراقيين، لن تقوم بعد اليوم قيامة للعراق. بفضل إيران تفتّت سوريا. بفضل إيران لا أمل بعد اليوم في أن يعود اليمن دولة واحدة. بفضل إيران توقّف كلّ ما له علاقة بالتقدّم والتطور في لبنان الذي خطا خطوات كبيرة إلى خلف في السنوات القليلة الماضية، أي منذ اغتيال رفيق الحريري في العام 2005.
نعم، لم يعد يجرؤ المواطن العربي على التفاؤل. لا بدّ من الانتظار قليلاً قبل معرفة هل بدأت نهاية الكابوس الإيراني. لم يكن كابوساً على المنطقة العربية فقط. كان كابوساً على الإيرانيين أيضاً. انتفض هذه المرّة، على العكس مما حصل في 2009، أبناء الطبقة الفقيرة الذين أدركوا أنّ هذا النظام سيزيد من فقرهم وبؤسهم في ظلّ سيطرة «الحرس الثوري» على الاقتصاد.
أيّاً تكن نتيجة الانتفاضة الإيرانية الجديدة، ليس في الإمكان سوى القول إن الإيرانيين سئموا من نظام لم يقدّم لهم شيئاً. ليس صحيحاً أن الإيرانيين يكرهون أميركا. إنّهم مغرمون بأميركا وهم يقدمون القيم الأميركية على كلّ ما عداها.
قد يسقط النظام الإيراني وقد لا يسقط، لكن الذي لم يعد من شكّ فيه أنّ هذا النظام لا مستقبل له. استخدم كلّ ما لديه من خزعبلات لإطالة عمره، بما في ذلك حبل النجاة الذي وفّره له باراك أوباما الذي حصر همّ إدارته في التوصل إلى اتفاق في شأن الملف النووي الإيراني. دفع لبنان وسوريا والعراق ثمناً غالياً جداً بسبب الغزل الأميركي – الإيراني في عهد أوباما.
من الأسئلة التي ستطرح نفسها بحدّة هل تغيّر شيء في الولايات المتحدة حيث يتبين يومياً أن لدى النظام الإيراني لوبي كبير يمتلك نفوذاً قويّاً في أوساط مختلفة من بينها وسائل الإعلام؟
في كلّ الأحوال، هناك تغيير كبير حصل في إيران. هناك انكشاف واضح لمدى إفلاس النظام. لم يكن ذلك سرّاً في يوم من الأيّام. أفلس إيرانياً قبل أن يفلس في الإقليم. لم يستفد من تجربة الاتحاد السوفياتي ولم يرد أن يدرك لماذا انهار الاتحاد السوفياتي. لا يمكن بكل بساطة أن يمارس بلد دور القوّة الإقليمية المهيمنة من دون اقتصاد قوي ونموذج يستطيع تقديمه، ومن دون أن يكون صادقاً مع شعبه أوّلاً. لا يمكن للأوهام أن تبقى على قيد الحياة إلى ما لا نهاية… إذا لم يسقط هذا النظام اليوم، سيسقط غداً، ولكن هل يمكن إصلاح كلّ هذا التخريب الذي خلفه إيرانياً وعربياً وإقليمي، خصوصاً في ضوء رهانه على إثارة الغرائز المذهبية من أجل وضع اليد على العراق وسوريا ولبنان واليمن؟