IMLebanon

«لا تَنصبْ لي فخ الذكريات»

 

«دَعْنَا من حديث الذكريات. لا تَنصبْ لي فخاً. لن أقع فيه. أحترم تعلّقك بمهنتك. لكنّ حساباتنا مختلفة، بل متناقضة. أنت تريد حديثاً مثيراً لنشره بعناوين مثيرة في (الشرق الأوسط). ومن حقك أن تحاول. من واجب الصحافي المحترف أن لا يكفّ عن محاولة اصطياد الروايات. وأنا لديَّ الكثير منها للأسف. وسبق أن تابعت بعض حواراتك بما فيها مع رجال عملت معهم في الجيش والحزب والدولة. رواياتهم ضاعفت اقتناعي أنني يجب أن أحمل رواياتي معي إلى القبر الذي لم يعد بعيداً في مثل سنِّي.

أعرف سلفاً الأسئلة التي تدور في ذهنك. تريد إجاباتي ليتمكّن القارئ من مقارنتها مع روايات اللاعبين الآخرين الذين حالفتهم أو خاصمتهم. أنت تقول: إن من واجبي تجاه الحقيقة والتاريخ أن أقول ما أعرف وما كنت منخرطاً فيه أو شاهداً عليه. وبعض تلك المحطات كان شائكاً ودامياً وصارخاً وتسبب أحياناً في ويلات وضحايا آلمت عائلات وأنهكت بلاداً بأسرها. وأنت تعرف أنني كنت أُوصف بالشجاعة والقسوة والتهور. لكنني أصارحك أنني أخجل أن أتحدث، وأخاف.

كنت أتمنى لو كانت بلادي مزدهرة الآن ومستقرة. ولو كان عندي نجاحات أتحدث عنها وإنجازات أبرزها. ولو كان عندي نموذج أضعه في تصرف أجيال جديدة تهتدي به أو تستأنس في بحثها عن المستقبل. صدّقني نحن رجال الماضي المؤلم ويجب أن نتوارى معه. أنت تحاول استدراجي إلى الحديث لأنك في قرارة نفسك تعتبرني مرتكباً. ولا ألومك على انطباعك. لقد ارتكبت مع رفاقي أخطاء وخطايا لا يخفف من آثارها أننا نفّذناها تحت ضغط الأحلام المبكرة أو تهور الشباب. نعم لقد ساهمنا في تحويل بلداننا أكواماً من الركام، في وقت كنا نحلم لها بالقوة والمنعة والوحدة وإيقاظ الأمة واستعادة عظمتها وتعزيز موقعها بين الأمم.

أعرف تماماً ماذا ستسألني وعمّن ستسألني. أسماء رفاقي تكفي لإثارة اهتمام الصحافي والقارئ. لكن إعادة فتح كل تلك الجروح لا يساهم مطلقاً في وقف الانحدار الرهيب الذي تندفع إليه بلداننا. أسماء رفاقي مثيرة ومخيفة. إنهم أحمد حسن البكر وصدام حسين. علي صالح السعدي وحازم جواد. ويمكنك أن تضيف إليهم رموز المراحل. عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. أعرف أنك ستسألني أيضاً عن ميشال عفلق وأمين الحافظ وحافظ الأسد.

أنا لا أنكر أنني كنت حاضراً ومشاركاً. وأعرف أنك ستسأل عن الإطاحة بقاسم وقصة إعدامه في الإذاعة. والعلاقة اللدودة بين قاسم ورفيقه عارف الذي لم يرحمه وسدد معه الحساب القاتل حين تمكّن. وستسأل بالتأكيد عن نهر الدم بين البعث والشيوعيين. وعن عودة البعث في 1968. وعن شاب خجول اسمه صدام حسين ارتضى لقب (السيد النائب) إلى أن حان موعد الضربة المدوّية وتحول السيد الرئيس القائد والرجل الوحيد القادر على التصرف بمصير البلاد والعباد.

أخجل أن أروي مذكراتي، وأخاف أن يقرأها أحفادي أو أولادهم، وأن يكتشفوا أننا تركنا لهم بلاداً مزروعة بالشِّراك؛ لا تخرج من مذبحة إلا لتدخل في أخرى. بلاد تعيش دائماً على شفير حرب أهلية أو في صلبها. بلاد تلتهم أبناءها وتدفعهم إلى المقابر أو المنافي أو الإقامة في رعب دائم.

لا تستنتج أبداً أننا كنا عملاء للأجنبي أو انتهازيين أو مولعين بالقتل والدم. لكن يمكنك الاستنتاج بسهولة أننا شبان لم نكن نعرف العالم ولم نكن نعرف بلداننا أيضاً. وأننا توهمنا أن الاستيلاء على الإذاعة يكفي لتغيير مصير البلاد. وأن سيطرة الحزب على كل شيء أمر مقدس يجيز قتل كل من يعارض أو يشكك. وأن من حقنا إرسال المحتجين إلى المشانق أو تركهم يتعفنون في السجون يشتهون موتاً سريعاً للإفلات من جحيم التعذيب.

لا أخفي عليك أنني أشعر بالعار حين أرى عراقيين يتضوّرون جوعاً فوق حقول النفط بينما وحش الفساد يبدّد خيرات العراق وسيادته وكرامته. أشعر بالعار حين يتظاهر عراقيون مطالبين بالكهرباء. وحين أسمع شكاوى السُّنة من التغيير الديموغرافي. وحين أسمع الأكراد يعتبرون الظلم قدراً يلاحقهم بغضّ النظر عن اسم الحاكم في بغداد. وأشعر بالألم حين أرى العراق عاجزاً عن تشكيل حكومة إلا بعد نَيْل رضا السفير الأميركي وتوقيع قاسم سليماني.

كم كنت أتمنى أن أنتظر الموت في بيتي في بغداد محاطاً بأولادي وأحفادي. وأن يكون لي قبر طبيعي في بلاد طبيعية. هل كان العراق يعيش ما يعيشه لو عملنا باكراً لقيام دولة طبيعية؟ وهل كانت سوريا تنفجر على هذا النحو لو عملنا على قيام دولة طبيعية في سوريا؟ لا يصحّ أن ننسى أن سياساتنا وتدخلاتنا ساهمت في تفجير لبنان الذي كان حديقة عربية بالتعايش والتقدم. وأن ياسر عرفات عانى على يد بعض أشقائه، ما دفعه إلى القبول بما يصعب عليه قبوله أصلاً.

لا أخفي عليك أنني أحسد البلدان الطبيعية. البلدان التي لا تحتاج إلى قائد تاريخي. والتي تنفق على التعليم والجامعات أكثر بكثير مما تنفق على أجهزة الأمن وتطوير أدوات التعذيب. البلدان التي تختار التعايش في الداخل والتعاون في الخارج.

لا تَنصبْ لي فخاً. لن أروي مذكراتي. ما يخيفني أن البدائل التي أطلّت كانت فاشلة هي الأخرى. ما ارتكبناه يقل عمّا يرتكبه الظلاميون. كنا نحلم بأمة واحدة ذات رسالة خالدة، وإذ بنا نراها مسالخ بشرية تتنزه فيها جيوش الدول الأخرى وميليشياتها. لا مستقبل للعرب إلا في ظل الدولة الطبيعية. وهذا لا يبدو وشيكاً وقريباً».