يحق لوزيرة خارجية النمسا كارين كنايسل أن تتزوج. وطبيعي أن يكون مستشار البلاد حاضراً ومحاطاً بكبار معاونيه. ومن حقها أن تحدد مع عريسها لائحة المدعوين النمساويين والأجانب. لكنها ذهبت بعيداً حين دعت رجلاً يشبه جيمس بوند ويفوقه شهرة وإثارة.
للتوقيت في الدبلوماسية أثر حاسم. تماماً كما في الصيد. تسدد في اللحظة المناسبة أو يطيش سهمك. هكذا اختار فلاديمير بوتين أن يعرج على العرس النمساوي في طريقه إلى برلين للقاء المستشارة أنجيلا ميركل.
أستاذ في صناعة الصورة وتوزيع الرسائل. وصل حاملاً باقة زهر. ولم ينس أن يصطحب معه فرقة من القوزاق لإبهاج المحتفلين بالفولكلور الروسي. وسرعان ما أصيب المحتفلون بالذهول. القيصر في وسط الحلبة يطوق العروس بيده ويراقصها ويرسل نظرات الحنان البريئة المدروسة. وفي الختام انحنى بتحفظ لمُراقِصته التي أسرفت في الانحناء. تحادث مع بعض الحاضرين وغادر.
سرعان ما انتشرت صورة الرقصة كالنار في الهشيم. وارتفعت الأصوات من أحزاب وشخصيات. هل يحق لوزيرة الخارجية مراقصة الرجل الذي ضم القرم وزعزع استقرار أوكرانيا وقلب مسار الحرب في سوريا، وأرسل هدايا لا رحمة فيها إلى «عملاء» متمردين على الأرض الأوروبية؟ وهل تستطيع النمسا تولي رئاسة الاتحاد الأوروبي حين تسرف وزير خارجيتها في الانحناء أمام «العدو اللدود للاتحاد»؟ وماذا عن نكهة الحياد التي ميّزت سياسة فيينا على رغم انضوائها في الاتحاد الأوروبي؟ واستدعى الأمر توضيحاً من المستشار زيباستيان كورتس: «وضعنا في أوروبا لم يتغير بسبب حفل زفاف. سياستنا الخارجية تجاه روسيا واضحة. ساعدنا في صياغة كل قرارات الاتحاد الأوروبي وملتزمون بها». وتدخل بوتين أيضا ليقول إن الزيارة «كانت خاصة جداً» من دون أن ينسى الإشادة بدور النمسا في الحوار. واعتبرت العروس أنها لم تبالغ في الانحناء وأنها تعلمت هذه الحركة حين تعلمت الرقص رداً على قول الحزب الاشتراكي المعارض أن المشهد كان «استفزازياً ومعيباً». ودافع آخرون عن العروس قائلين إنها غير متطرفة، وإن يكن «حزب الحرية» اليميني المتشدد اختارها لهذا المنصب، وهو حزب لديه علاقات تعاون مع حزب بوتين «روسيا الموحدة».
ارتبك الأوروبيون من رؤية بوتين يرقص في الحفل النمساوي. غاب عن بالهم أن بوتين كان أدى على الحلبة السورية رقصة عسكرية ودبلوماسية غيرت المعادلات وموازين القوى والمصائر. في سوريا وجوارها صار رقم هاتف القيصر ضمانة ومفتاحاً ومعبراً إلزامياً.
لا يستطيع النظام السوري تناسي رقم القيصر فقواته تقيم على أراضيه. لا بد من استخدام هذا الرقم لطلب المساعدة في وجه أي مشروع قرار أميركي أو غربي في مجلس الأمن يتعلق بسوريا. لا بد منه أيضاً لإقناع إسرائيل بقصر هجماتها الجوية والصاروخية على الأهداف العسكرية التابعة لإيران وحلفائها. وكان لا بد منه أيضاً في مناورة مناطق «خفض التصعيد» واستدراج تركيا إلى البرنامج الروسي. الدور الروسي حاجة ملحة في أي محاولة من النظام لإعادة جزء من السوريين الذين فروا إلى الدول المجاورة.
تركيا لا تحتاج إلى من يذكرها برقم القيصر. سجلته وحفظته عن ظهر قلب وسلكت درب آستانة. طلبت صواريخ روسية متناسية أنها أطلسية وراحت تنظر إلى التطورات السورية بنظارات روسية، في مقابل حصولها على جواز مرور من الكرملين لإجهاض حلم الأكراد بمنطقة «الإدارة الذاتية». الأكراد أنفسهم لم يجدوا أمامهم غير الرقم الروسي لضبط الاندفاعة التركية ضدهم، وبعدها ضبط رغبة النظام في تأديبهم.
إيران لا تستطيع تجاهل رقم القيصر. تحتاجه في مجلس الأمن. وضد العقوبات الأميركية. وفي بقايا الاتفاق النووي. وفي موضوع الوجود العسكري في سوريا. صحيح أن الدور الروسي في سوريا يقلص بالضرورة شيئاً من الدور الإيراني، لكن الصحيح أيضاً هو أن روسيا تحتاج إلى الورقة الإيرانية في أي مساومة كبرى مع أميركا.
الأردن أدرك باكراً أهمية رقم القيصر. الاتصال ضروري خصوصاً حين يتعلق الأمر بالوضع في جنوب سوريا. وهو ضروري أيضاً لدى البحث في إعادة اللاجئين السوريين والاطمئنان إلى المستقبل السوري برمته. الأردن يريد أيضاً إبعاد الميليشيات الموالية لإيران عن حدوده وموسكو هي الأقدر على المساعدة.
لبنان لا يحتاج إلى من يذكره بأهمية الرقم الروسي. سعد الحريري يدرك أهمية موسكو في خفض الضغوط السورية للتطبيع الكامل. وزير الخارجية جبران باسيل فتح مع لافروف الهموم المشرقية كأنه يحض روسيا على لعب دور الضامن للتعايش والأقليات. وليد جنبلاط لم يجد غير الرقم الروسي يلجأ إليه حين ساوره القلق على دروز سوريا بعد تعرضهم لمذبحة على يد «داعش».
يمكن القول إن بنيامين نتنياهو سبق كثيرين في توظيف الرقم الروسي. يربطه ببوتين «خط ساخن». زار موسكو أكثر مما زار واشنطن. حصل من سيد الكرملين على حق مهاجمة البنية العسكرية لإيران وحلفائها على الأرض السورية. التزام بوتين أمن إسرائيل بدا واضحاً في إنعاش اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل ومشاركة جنود روس في السهر على احترامها.
ما فعله بوتين في الشرق الأوسط أهم وأخطر من رقصته النمساوية. في الشرق الأوسط لا تنس رقم القيصر فقد تحتاج إليه اليوم أو غداً.