هناك تعبير سخيف، صار شعاراً شهيراً، هو: «اعرف عدوّك». التعبير هذا الذي استُخدم عربيّاً لعقود، ولا يزال يحظى ببعض جلاله، يطال كلّ ما يُعرّف بإسرائيل، أو يَنقل عنها، أو يترجم لها. وهو سخيف لأنّه، فضلاً عن أسباب كثيرة أخرى، يحصر المعرفة بالعداوة، وبالتالي بوظيفة سياسيّة أو حربيّة هي ضيّقة حتماً، وهي بالتأكيد أضيق كثيراً من المعرفة.
لكنْ حتّى بمعيار هذا التعبير – الشعار فإنّنا «لم نعرف عدوّنا». صحيح أنّ أطناناً من الورق حُبّرت بمعلومات ومعطيات عن الدولة والمجتمع الإسرائيليّين تفرّغت لها مراكز أبحاث ودراسات وتفرّعت عنها كتب ومقالات. لكنّ المعلومات ظلّت معلومات ولم تصبح معرفة. فنحن لم يستوقفنا السؤال الذي يستحقّ بعض التفكير: كيف استطاع هذا المشروع أن يجتذب أقواماً يختلفون في اللغة والتجربة والذاكرة، وكيف استطاع جعلهم يعيشون ويتعايشون في هذا الكيان الاستيطانيّ والعدوانيّ ويتغلّبون على تناقضاتهم من خلال اللعبة السياسيّة والبرلمانيّة؟ يزيد السؤال إلحاحاً قيام الكيان المذكور بعد انقضاء موجة الهجرات الاستيطانيّة، ثمّ بعد حركة نزع الاستعمار في «العالم الثالث»؟ لكنّ أكثر ما يزيد السؤال إلحاحاً أوضاعُ بلداننا التي تتفسّخ وأقوامنا التي تتنابذ وتتحارب عاجزةً عن بناء مجتمعات سياسيّة قابلة للحياة.
شيء من الاشتغال على هذا السؤال كان في وسعه أن يقدّم إسهاماً مفيداً ومبكراً في إدراك أهميّة الديموقراطيّة، إن لم يكن لذاتها فلصيانة وحداتنا الوطنيّة أو ما تبقّى منها.
يُسترجَع هذا الوعي المُفوّت (والتعبير لياسين الحافظ) مع ما نعيشه اليوم، حيث يستمرّ العزوف عن «معرفة عدوّنا». ففي غابة الصراخ عن الصواريخ ودقّتها، وعن نهاية «زمن الهزائم»، يصفعنا الواقع التالي: إنّ الدولة العبريّة لا تتبدّى قويّة في جيشها واقتصادها فحسب، بل أيضاً في حصول قيادتها العنصريّة والاستيطانيّة على تأييد أغلبيّة السكّان. يحصل هذا مع استمرار التمسّك بالنظام الديموقراطيّ البرلمانيّ، أقلّه في ما يخصّ المواطنين اليهود. وهي تركيبة نادراً ما صحّت في تجارب سابقة، علماً أنّ صحّتها الحاليّة لا تنفصل عن ظاهرة الشعبويّة الصاعدة اليوم في العالم، والتي تدمج الديموقراطيّة الإجرائيّة، غير الليبراليّة أو القليلة الليبراليّة، بسياسات الجموح القوميّ.
أخطر من ذلك أنّ القوّة الإسرائيليّة، بهذا المعنى المركّب، أثبتت قدرتها على قضم المجتمعات العربيّة من أطرافها. لقد استفادت إسرائيل من تصدّع مجتمعاتنا، بفعل غياب الديموقراطيّة والتعدّد، فأنشأت مواقع لها في لبنان والعراق وسوريّة لم تعد سرّاً على أحد. كذلك لم يعد سرّاً أنّ تلك المواقع لم تزدهر إلاّ في سياق الصراعات الأهليّة داخل المجتمعات العربيّة المذكورة. وها هم الإسرائيليّون – وهنا تبلغ المفارقة ذروتها – يزوّدون قطاع غزّة، الذي تحكمه «حماس»، بالوقود الذي يشغّل محطّة كهرباء، فيما ترفض حكومة رام الله ذلك.
وحين نعيد المسألة إلى «الخيانة» و»العمالة» فهذا ما لا يفعل سوى مفاقمة الجهل والتجهيل: مرّة بإسرائيل ومرّة بأنفسنا وبمجتمعاتنا. أوليس التجهيل بالآخر إحدى نتائج الجهل بالنفس؟