بين لحظةٍ وأخرى تنطلق معركة القضاء على وجود التنظيمات المتطرّفة في جرود عرسال، ليس تعثّر المفاوضات هو الدافع الوحيد لاندلاع المعركة، بل مسائل أخرى أيضاً، مِن بينها تأديبُ مجموعات «النصرة» التي غدرَت بأحد مواقع «حزب الله»، ما أدّى إلى سقوط عنصرين منه منذ بضعة أيام وتسجيلِ نصرٍ عسكري.
لكنّ دويّ القصف المدفعي وغارات الطيران السوري لن تمنعَ لاحقاً استمرار المفاوضات لإنجاز تأمين ممر آمن إلى الداخل السوري لانتقال المسلحين الى إدلب على الأرجح، ولكن وفق الشروط التي ستفرضها المعركة هذه المرّة.
المشرفون على التحضيرات العسكرية يدركون صعوبة الظروف الميدانية والطبيعية، حيث الجبال والصخور والمغاور والأفخاخ الطبيعية، ورغم ذلك يرجّحون ان تنتهي المعركة خلال وقتٍ قصير نسبياً.
فالاستعدادات العسكرية ووضعُ الخطط لم يبدأ بالأمس، بل منذ زهاء العامين حين باشَر «حزب الله» وضعَ خططه للسيطرة على كامل جرود عرسال بعدما كانت المجموعات المتطرفة تعمد الى استهتداف بعض البلدات والقرى البقاعية بالصواريخ، إضافةً الى إرسال السيارات المفخّخة والانتحاريين.
لكن ما كان يحول دون البدء بالعملية هو التطوّرات الميدانية في سوريا والطلب الروسي بالتروّي بسبب اولويات الميدان السوري. وليس سرّاً أنّ «حزب الله» حاوَل تأمينَ ظروف لشنّ المعركة خلال الصيف الماضي أيضاً لكنّ الأولوية كانت لحلب ولإنجاز تطهير محيط دمشق، وطوال هذين العامين كانت تتمّ دراسة المستجدّات الميدانية وما طرأ على واقع التنظيمات المتطرّفة، وبالتالي إدخال تعديلات على الخطة، وبات معروفاً أنّ صعوبة وحساسية المعركة لا تقف عند الطبيعة الجبلية للمنطقة، بل ايضاً لمنعِ تأثيراتها السلبية عن بلدة عرسال ومخيمات النازحين السوريين، اي بما معناه فصلُ المقاتلين عن المدنيين.
الأجواء اصبحت اكثرَ وضوحاً الآن، وخصوصاً على المستوى السياسي العام في سوريا، ما جعلَ الظروفَ ناضجةً لاتّخاذ القرار.
ومع نهاية فصل الربيع بدأ التحضير لواقع سوريّ جديد رَعته في شكل مباشر ومفصَّل الاجتماعات السرّية التي عقِدت في الاردن بين عسكريين وخبراء اميركيين وروس حول المنطقة الجنوبية لسوريا بشكل خاص، وهو ما ظهر مؤخّراً من خلال تكريس منطقة وقفِ إطلاق النار، ويشمل هذا الترتيب وجوبَ الانتهاء من «جيب» جرود عرسال.
يومها طلبَ قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي زيارة لبنان ومنطقة عرسال، في إشارة اميركية واضحة بإعطاء غطاء اميركي للتطوّرات العسكرية التي ستحصل. ولأنّ مرحلة نهاية الصيف ستشهد إعلانَ مناطق أخرى في سوريا خطة وقفِ إطلاق النار وهي ليست بعيدة عن عرسال، جاء القرار بإنهاء بؤرة جرود عرسال.
وتدرك القيادة العسكرية الاميركية جيّداً أنّ المعركة تعني التنسيق في العديد من المجالات بين الجيش اللبناني و»حزب الله»، لذلك ربّما تجنّبَ القائد العسكري الاميركي تكرارَ الموقف الاميركي الكلاسيكي بانتقاد القوى غير الشرعية لا مباشرةً ولا حتى تلميحاً خلال اجتماعه في قصر بعبدا، وهذه إشارة ملفِتة.
المهم أنّ الحسابات تتركّز حول الانتهاء من ملفّ جرود عرسال قريبا جداً، والضربة الأولى ستتركّز على «النصرة»، وتتحدّث المعلومات الدقيقة عن أنّ مسؤول «النصرة» أبو مالك التلي وافقَ على الانسحاب من الجرود بشرط أن يرحلَ مع كامل أسلحته، وهو ما رفضَه «حزب الله» الذي يريده أن يغادر من دون سلاح ومال، وقيل أيضاً إنّ الوساطات التي حصَلت شاركت بجرء منها قطر، لكنّ «النصرة» ما تزال تتمسّك بشروطها لاعتقادها أنّ قطر قادرة على تليين موقف «حزب الله» بسبب التطوّرات في الخليج إضافةً إلى منحى مناطق وقف إطلاق النار الذي بدأ تنفيذها في سوريا.
وفي السياق، تحدّثت المعلومات ايضاً أنّ وساطة حصلت مع تركيا من أجل إيجاد مخرج من دون حرب، لكنّ المهم أنّ كلّ ذلك لم يصل الى مرحلة التفاهم، ما يعني أنّ المعركة ستندلع قريباً جداً وباتجاه «النصرة» كمرحلة أولى، وأنّ الجيش اللبناني وضع كلّ «استحكاماته» من الجهة اللبنانية.
وإلى جانب اتّخاذ قرار الحسم في جرود عرسال جرى التوافق على قرار آخر ولو من ناحية مبدئية يتعلّق بالمخيّمات السورية في لبنان، فالترتيبات الكبرى الجارية في سوريا تستوجب إنجاز هذه المشكلة في لبنان كي لا يتكرّس وجود هؤلاء لاحقاً وإلى الأبد، والتجربة الفلسطينية أكبر دليل على ذلك.
ووفق ذلك بدا أنّ الكلام حول رفضِ دفعِ أثمانٍ سياسية لعودة هؤلاء في هذه المرحلة المهمّة بمثابة الخطيئة الثانية التي يرتكبونها بعد تشجيعِهم قدوم هؤلاء النازحين من بداية الحرب السورية وبذريعة أنّ الحرب ستنتهي خلال أشهر معدودة وسيعود هؤلاء الى بلادهم. خطيئة ترتكز على قِصر نظر هذا الفريق وهو يكرّر ذلك الآن.
المنطقة جارٍ ترتيبُها، وسوريا تخضع لخارطة توزيع سكاني جديد تأخذ بعين الاعتبار الانتشارَ الديموغرافي والتنوّع الطائفي والمذهبي.
وبعيداً عن هذا الجدل الاعلامي الباهت فإنه لا بدّ من الإقرار بأنّ أوروبا دفَعت أثماناً كبيرة للحدّ من موجة هجرة بضعة مئات الالوف من السوريين إليها، ألا يعني ذلك وجوبَ خوضِ تجربة دفعِ أكلافٍ سياسية لعودةِ هؤلاء بعدما باتوا يشكّلون ضغطاً أمنياً واقتصادياً وسياسياً هائلاً على لبنان لقاءَ إقفال هذا الملف؟
خلال الأسبوع الماضي زار مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم دمشق والتقى الرئيس السوري بشّار الأسد بعيداً عن الإعلام وبصفته ممثّلاً لرئيس الجمهورية، وكان جواب الأسد واضحاً بأنّه يريد التنسيق في هذا الملف من دولة إلى دولة عبر حكومتَي البلدين، ولا يبدو الرئيس السوري محشوراً كما في السابق، فالحرب في مراحلها النهائية والواقع تغيَّر بالكامل وأزمة النازحين تهدّد الآخرين لا النظام السوري.
ومِن الغريب ألّا يقرأ بعض الزعماء اللبنانيين الواقعَ الجديد الذي يَدخل إليه الشرق الأوسط، فهنالك ما يشبه إعادةَ تكوين الهيكلية السياسية في المنطقة وعلى أنقاض هيكلية ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالصورة الجديدة ترتكز على عنصرين؛ الأول إخراج إسرائيل من دائرة صراعها مع العرب وإنجاز التسويات المطلوبة لذلك.
والثاني ترتيب موجبات النزاع مع إيران مع ما يقتضيه ذلك من خلق توازنات جديدة تسمح بأن يسود هذا الصراع العقود المقبلة وأن يشكّل عامل استنزاف دول المنطقة والحدّ الأدنى من هذا التوازن يعني ضمناً السماح لإيران بتوسيع نفوذها وصولاً إلى لبنان. من هنا قد يُفهم الاتفاق الاميركي الروسي في سوريا والذي أدّى حتى الآن الى إبعاد إيران و»حزب الله» عن الجولان مقابل تركِ حرّيتِها في منطقة الحدود العراقية السورية.
إلى ذلك سيكون حاضراً بطريقة أو بأخرى خلال جولات رئيس الجمهورية إلى فرنسا وإيران وغيرها من الدول بدءاً من شهر أيلول المقبل حيث تكون معركة عرسال قد طويَت صفحتُها والنقاش صاخب حول مصير اللاجئين خصوصاً وأنّ الانتخابات الفرعية مرشّحة لالغائها.