تساءل بعضُ قوى «8 آذار» حول ما قصده رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بعبارة «لا تجرّبونا مرة أخرى» في كلمته التي ألقاها خلال قداس الشهداء في 3 أيلول الفائت. وقد طرحت هذه القوى سلسلة أسئلة أهمها: «ألم يتّعظ رئيسُ حزب «القوات» من تجربة الحرب اللبنانية؟ وهل يوافقه المسيحيون على هذا التوجّه الخطير؟ ومَن يقصد جعجع في عبارته هذه؟ أليس الخطر الوحيد الذي يدهم لبنان اليوم يأتي من «داعش»؟ لماذا لا يحافظ جعجع على إيمانه بالدولة كما كان يردّد دائماً في الآونة الأخيرة؟» وغيرها من الاسئلة التي حرّكت هواجس قوى «8 آذار» بعدما عكفت على درس كلمة رئيس حزب «القوات».
أما في معراب فقال جعجع كلمته ولم يمشِ، إذ يعيش يومياً هاجس الإبقاء على جهوزية المسيحيين عموماً و«القوات اللبنانية» خصوصاً في مواجهة الأخطار المحدِقة بهم. ولا يشغل بالُ أوساط معراب تبريرٌ ما نطق به جعجع في كلمته الحادة نسبياً، لأنّ مضامينها تشكّل قناعةً ثابتةً لدى كلّ كوادر وقياديّي «القوات» وفي مقدمهم جعجع.
المكان الذي أطلق فيه جعجع كلمة «لا تجرّبونا» والتي توقفت عندها قوى 8 آذار هو معراب والزمان هو يوم إحياء ذكرى شهداء «المقاومة اللبنانية».
هنا تعتبر أوساطُ معراب أنّ المكان والزمان والظروف السياسية والأمنية السائدة في البلد دفعت رئيس «القوات» إلى استخدام هذه العبارة الجريئة، إذ لم يقدّم المسيحيون و«القوات» كلّ هؤلاء الشهداء من أبنائهم لكي تتنازل اليوم عن أدبياتها وثوابتها المؤلفة في جذورها من الثوابت المسيحيّة التي تكوّنت بفعل التاريخ على هذه الأرض.
إجابات حازمة وقاطعة تأتي من معراب على تساؤلاتِ قوى 8 آذار المتوجّسة من عبارة جعجع. فالرجلُ لا يتمنّى العودة إلى منطق ولغة الحرب بتاتاً، وهو الذي اعتذر عن أخطاء ارتكبتها «القوات» نتيجة العمل العسكري وأكثريّتها لم يكن مسؤولاً عنها بصورة مباشرة، إنما لم يعد مقبولاً بنظر جعجع أن يبقى المسيحيون مكتوفين إذا تعرّض وجودهم الحرّ لأيّ خطر، وهم الذين صنعوا الملاحم في الدفاع عن الكيان عندما كان الإطار الجغرافي للمسيحيين مقتصراً على جبل لبنان.
الأخطار التي تهدّد المسيحيين في الشرق جدّية وأبرز دليل على ذلك ما حصل لهم في الدول المجاورة على يد «داعش» أحياناً وبسبب تقاعس النظام السوري أحياناً أخرى.
وتؤكّد أوساطُ معراب لـ«الجمهورية» أن لا شيء غير الجهوزيّة الفكريّة والسياسيّة يطلبه جعجع من المسيحيين اليوم، وهو يرى أعمدة الدولة تنهار الواحدة تلو الأخرى. أليس بديهياً في ظلّ هذه الفوضى أن يحذّر جعجع الآخرين من أنّ المسيحيين ليسوا ضعفاء بل إنهم قادرون على المقاومة إذا دقّ الخطر على الأبواب؟
المقصود في عبارة جعجع «لا تجرّبونا» داعش وغير داعش، لأنّ هادمي أسس الدولة هم من أعداء الخارج والداخل على حدٍّ سواء، لذلك كان لا بدّ من وضعِ خطٍّ أحمر أمام كلّ مَن تسوّله نفسه التعرّض للمسيحيين لأنه سيجد نفسه أمام خطّ دفاعٍ شرس لا يقلّ شراسة وقوة عن ردة الفعل التي حصلت في القاع، ولكلّ مَن تسوّله نفسه الاستمرار في العبث بمرتكزات الدولة التي يؤمن بها المسيحيون.
حتماً لم يزعج كلام جعجع المسيحيين، بل أيقظ فيهم العنفوانَ والكرامةَ وحسَّ المقاومة الذي يتميّزون به منذ مئات السنين، ولا شك أنّ عبارة «لا تجرّبونا» لم تزعج جماهير «التيار الوطني الحر» التي تتشكّل في معظمها من جمهورٍ مسيحيّ سياديّ محقون لا يقبل الإرتهانَ لأحدٍ سواءٌ كان «حزب الله» أو غيره.
بعد كلمة جعجع الاستنهاضية، بات على «حزب الله» أن يراجعَ حساباته، فهو حتماً ليس مقصوداً مباشرة بهذه الكلمة، إذ لم يشعر المسيحيون أنه يهدّد وجودَهم، لكنّ أداءَ «الحزب» يبدو مشبوهاً لدى الأوساط المعرابية نتيجة أعمال مريبة كالتي تحصل في أراضي المسيحيين في لاسا وغيرها، إضافة إلى جرّ لبنان بإتجاه حالة من اللااستقرار بل الاهتراء المؤسساتي بفعل تعطيل عملية إنتخابِ رئيسٍ للجمهورية ومشاركته في الحرب السورية وغيرها.
صحيحٌ أنّ الأخطار الأمنية المباشرة تأتي من «داعش» والمنظمات الإسلاميّة المتطرّفة، إلّا أنّ ثمّة أخطاراً غير مباشرة لا يمكن إغفالها تأتي من أداء «حزب الله». مع ذلك، يؤمن رئيس «القوات» بأنّ سبلَ التفاهم مع «الحزب» ولو بالحدّ الأدنى، لم تنقطع بواسطة حلفائه العونيين، ولو كانت الآمال ضعيفة بتغيير أدائه.
عبارة «لا تجرّبونا» مرة أخرى لا تعني أنّ جعجع تخلّى عن إيمانه بمؤسسة الجيش اللبناني، فهو كان ولا يزال يعتمد على هذا الجيش ويطالب بتسليحه يومياً، وذهب أبعد من ذلك بإلحاحه على تسليم «حزب الله» سلاحه الى الجيش والبقاء خلفه لا منافسته في القتال على الحدود اللبنانية وخارجها. فلماذا تطلب قوى 8 آذار من «القوات» أن تولي ثقتها للجيش فيما يستمرّ «حزب الله» في بناء جيشه الخاص رافعاً معادلة «جيش وشعب ومقاومة؟».
مفهومُ المقاومة في «معراب» لا يمكن أن يحتكرَه أحد، بل يحق لكلّ الجماعات المكوِّتة للبنان حماية نفسها إذا شعرت بأخطار تتهدّدها، وإلّا فليسلّم «حزبُ الله» سلاحه للجيش اللبناني ولنبدأ ببناءِ دولة قوية وفعلية تدافع عن الجميع وتشكّل ضمانة لكلّ المكوِّنات التي تحاول «التعايش» في جمهورية الـ10452 كلم2.