ألم يحِن الوقت لوقف «التكاذب اللبناني»؟ وهل هناك حاجة إلى برهان جديد للتأكُّد من «الطلاق النفسي الطوائفي» أكثر من أزمة النفايات؟ وإلّا، فما الذي يدفع طوائف لتقول لأخرى: إبتلِعوا نفاياتكم واسكُتوا!
يخطئ مَن ينظرُ إلى أزمة النفايات الحالية على أنها مجرد أزمة تقنية لإيجاد مطمرٍ جديد. فهذه الأزمة ليست سوى مظهر صغير وسطحي للأزمة الكبرى. فلبنان تجاوز أزمة الحكومة وحتى أزمة النظام، وهو يتخبَّط في أزمة الكيان. والدولة التي قال عنها الرئيس الياس الهراوي قبل أكثر من 18 عاماً (سنّ الرشد) إنها لم تبلغ سنَّ الرشد، ستبقى قاصرةً ولو مرَّت 18 سنة أخرى، 18 مرَّة!
وتتَّجه هذه الدولة إلى مزيد من التفكُّك والانهيار، ولو حافظت على تماسكها الخارجي ضمن الإطار الوحدوي حتى الآن. وليس غريباً أن يكابرَ البعض بالإصرار على إنكار الأزمة الكيانية. فالعربُ هم هكذا. مثلاً: العراق مقسَّم واقعياً لكنه يدَّعي أنه ما زال دولة واحدة.
وسوريا مشرذمة بالكامل، وما زال البعض يتحدث عنها وكأنها دولة واحدة. ولذلك، ليست غريبة مكابرة اللبنانيين بالادّعاء أنهم دولة واحدة، فيما الكيان الشيعي ناشئ ومحكومٌ ذاتياً بحكم الأمر الواقع ومربوط بالخرائط السورية الجديدة… وفيما تبحث طوائف أخرى عن أطُر كيانية تحميها.
ولا يجوز التعاطي مع شعار «فدرالية النفايات» باعتباره شعاراً كاريكاتورياً، بل بكونه ترجمة حقيقية للواقع اللبناني. فما لا تتجرّأ الطوائف على قوله
عن الفدرالية في الدستور، جاءتها الفرصة لقوله في النفايات.
أليس كلامُ العماد ميشال عون الفدرالي الملتبس هو أحد الوجوه؟ وهل البند المتعلِّق باللامركزية المالية في «إعلان النيّات» بعيد من الفدرالية؟ وهل الطرح الإتحادي الذي نادى به النائب سامي الجميّل في خطاب رئاسته للكتائب سوى الفدرالية إياها؟ وأمّا موقف النائب وليد جنبلاط، في ملف مطمر الناعمة، فهو يقود مباشرة إلى فرز النفايات مناطقياً- طائفياً، سواءٌ كان يتقصَّد جنبلاط هذا الفرز أم لا.
واللبنانيون لا ينتفضون لكون الجمهورية بلا رأس حتى إشعارٍ آخر، وبمؤسسات دستورية وأجهزة تزداد شللاً يوماً بعد يوم، وبلا حلول للكهرباء وسلسلة الرتب والرواتب والاقتصاد المتعثِّر، وهم لا يسألون عن الفساد، لكنهم يريدون حلّاً سريعاً للنفايات. وهذا يعني أنّ فكرة الدولة والمؤسسات لم تعد تعني لهم شيئاً، وكل ما يهمُّهم هو تسيير أمور المعيشة فقط، أيْ الأكل والشرب.
وهنا يصبح السؤال مشروعاً: هل الأزمات ذات الطابع الحياتي والاجتماعي والاقتصادي، كالنفايات والكهرباء والرواتب والفساد الغذائي وسواها متروكة عمداً للتفاقم، كي تكون عاملاً مساعداً في تفجير الأزمات السياسية والدستورية والأمنية، وصولاً إلى الفراغ الشامل وفرض الحلول الآتية إلى لبنان والمنطقة؟
وتالياً، هل هناك أفضل من هذا التراكم في الأزمات لبلوغ لبنان مأزقاً شاملاً يبرِّر انعقاد «المؤتمر التأسيسي»، الآتي عاجلاً أو آجلاً؟
في المفهوم الاستراتيجي، أثبت العراق وسوريا أنهما دولتان فاشلتان. وفي غياب القدرة على إعادة التوحُّد، يتأرجح البلدان بين خيارين: إما الغرق في حرب أهلية لا هوادة فيها بلا أفق، وإما عقد مؤتمرات للمصالحة تنتهي ببناء صيَغٍ جديدة للكيانات القديمة تقضي إما باستمرارها فدرالياً وإما بالتقاسم. ومن الطبيعي أن يكون الخيار الثاني هو الأسلم.
وبناءً على هذا المعطى، سيواجه لبنان واحداً من استحقاقين:
1- إذا جرى تقاسم الكيانات الإقليمية مذهبياً، فسيتعرَّض لبنان لخطر التقاسم أيضاً. وسيكون اعتماد أيّ نوع من الفدرالية عندئذٍ قارب النجاة الوحيد لعدم تقسيم لبنان.
2- إذا استمرّت الحروب الأهلية إقليمياً فسيواجه لبنان في الحدّ الأدنى استمراره في حال عدم الاستقرار الأمني والسياسي، وفي الحدّ الأقصى قد يواجه حرباً أهلية. وسيكون المخرج هو اتفاق اللبنانيين على تحييد لبنان عن الصراع المذهبي الإقليمي، وإقرار صيغة آمنة لجميع مكوِّناته، فلا يشعر أيّ منها لا بالاستقواء ولا بالاستضعاف.
إنّ أزمة النفايات هي القشّة التي قصمت ظَهر الحكومة. لكنّ الحكومة كانت ساقطة عملياً، بالنفايات ومن دونها، وكذلك المجلس النيابي وقبله رئاسة الجمهورية.
وقد لا يستقيل الرئيس تمام سلام ولا أيّ من خصومه داخل الحكومة، لأنّ المطلوب دولياً استمرارها. إلّا أنّ الحكومة تقترب من صيغة تصريف الأعمال يوماً بعد يوم. ولن تقوم قيامة للكيان والدولة إلّا بإنهاء عملية التكاذب داخل «المكبِّ المركزي»… وقبل فوات الأوان!