سنة 1960 شاهد الأميركيون أول مناظرة سياسية قدمها التلفزيون للمرشحَيْن الجمهوري ريتشارد نيكسون ومنافسه الديموقراطي جون كينيدي. وكسبت تلك الجولة الحاسمة لقب «ظاهرة الحوار التصادمي» بسبب عنف الانتقادات التي وجهها واحدهما إلى الآخر، إضافة إلى المواقف المتناقضة بين مرشحَيْن يتقنان فن الأداء الانتخابي.
ومع اتساع شبكات التلفزيون وإدمان المواطنين الأميركيين على تتبع المناظرات السياسية في شكل خاص، تحولت هذه الظاهرة إلى جاذب سحري أقوى من جاذب المسرح ودور السينما. وتفاوت عدد المشاهدين وفق تفاوت أهمية المرشحين، بحيث تعدت الأرقام في إحدى الدورات مئة مليون مشاهد.
وبسبب الأخطاء القاتلة التي يرتكبها عادة المتنافسون، نمت الحاجة إلى التدرب على الأداء بصورة مكررة، لأن الظهور أمام الجماهير أصبح أمراً مهماً في مستوى البيان الحزبي. وأكبر مثال على ذلك أن استبعاد جورج بوش الأب من دورة العام 1992 حصل بسبب انشغاله بالتطلع إلى الوقت عبر ساعة يده، كأنه بتلك الحركة يعرب عن ضجره واستخفافه بمنافسه بيل كلينتون.
وفي مناسبة أخرى، استُبعِدَ المرشح آل غور من المنافسة لأنه تثاءب بضع مرات، بينما كان جورج دبليو بوش يتحدث عن برنامجه الانتخابي.
أثناء الحديث الذي أجريته مع الرئيس نيكسون بعد فضيحة «ووترغيت»، أخبرني بأن خسارته أمام كينيدي كانت بسبب الناخب التلفزيوني الذي تأثر بعوامل عدة، لم يأخذها هو في حينه في الاعتبار. السبب الأول في نظره كان قيامه بدور المدافع عن الإدارة التي ينتمي إليها في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور. لذلك استغل منافسه كينيدي أخطاء الحكم، ليعلن نفسه مدافعاً عن مصالح الشعب في حال تم انتخابه رئيساً.
والثابت أن مستشاري دونالد ترامب لم ينبهوا المرشح الجمهوري إلى أهمية انتقاد منافسته التي شغلت دور وزيرة الخارجية. وكل ما فعله في نهاية المناظرة أنه اعترف بامتناعه عن إثارة القضايا التي تسبب لها الإحراج، الأمر الذي منحها فرصة فريدة للانقضاض عليه أثناء المواجهة التلفزيونية.
السبب الثاني الذي اعتبره نيكسون خدمة مجانية لعبت لمصلحة كينيدي، هو ارتفاع حرارة قاعة المواجهة بعد إضاءة كل الكاميرات المسلطة على وجهَي مرشحَي الرئاسة. وقال أنه من الأشخاص الذين يعانون من العرق المتصبب، وأن إزالته كانت تستدعي استعمال منديله بصورة متواصلة. ويبدو أن المشاهدين فسروا تلك الحركة بأنها نتيجة خوف وارتباك. وكان من الطبيعي أن تستغلها الصحف المعارضة لتصوير نيكسون على غير حقيقته.
المهم من هذا كله أن المناظرة التلفزيونية بين كلينتون وترامب لم تكن كافية لإظهار كامل الجهود المرتبطة بأهدافهما الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذلك تقرر إجراء مناظرتَيْن أخريَيْن قبل الوصول إلى يوم الانتخاب المحدد في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
يتوقع المراقبون أن تكون المناظرة الثانية أكثر حدة وصراحة، بحيث يقدم كل مرشح على كشف الحقائق التي جمعها عن منافسه. ويرجح هؤلاء أن يصوّب ترامب سهام انتقاداته على الأزمة الصحية التي تعرضت لها كلينتون أخيراً. وبما أنه عازم على التشكيك في قدرتها على اتخاذ القرار الصحيح، فقد يستعين ترامب بتقرير «اف. بي. آي» الذي يؤكد تعرضها في العام 2012 لارتجاج دماغي، أو ما يُعرف بالجلطة الدموية. ويُذكر أن الأطباء منعوها من العمل المرهق بسبب فقدان جزئي في ذاكرتها. ويُقال في هذا السياق أن مشكلة بريدها الالكتروني لم تكن إهمالاً – كما يزعم التحقيق – وإنما بسبب عدم تمكنها من ضبط حالات السهو والنسيان.
وربما يستغل ترامب هذا الموضوع لإعلان ما كتبه طبيبه الخاص الدكتور بورنستاين عن صحته بأنها «ممتازة على نحو مدهش» وأن «قوته الجسدية خارقة». وجاء في التقرير أيضاً أن وضعه الجسدي «يحاكي وضع أي شخص يمارس الرياضة بصورة يومية، ولا يدخن، ولا يتناول الكحول».
ومن المتوقع أيضاً أن يثير ترامب موضوع استغلال مركز كلينتون السابق كوزيرة خارجية من أجل تفضيل كبار المتبرعين لمؤسسة زوجها الخيرية، خصوصاً أن المسؤول في المؤسسة المدعو دوغ باند، كان اقترح دعوة المتبرعين إلى حفلة غداء تتم في وزارة الخارجية للتعرف إلى الرئيس الصيني. ومع أن الدعوة لم تتم، إلا أن المعارضين استخدموا الاقتراح للتشويش على دور كلينتون، وإظهارها بمظهر المروّج لجمعية زوجها الخيرية.
وخلال تلك المرحلة، استغلت صحيفة «لوس انجليس تايمز» التبرع السخي الذي قدمه رجل الأعمال اللبناني جيلبير شاغوري كي تغمز من قناة الوزيرة وتوحي بأنها تستعمل موقعها السياسي لتخدم زوجها.
على صعيد آخر، دخل بعض المغتربين اللبنانيين على خط الحملة الانتخابية التي تخدم ترامب، بينهم وليد فارس المعروف بميوله السياسية المتطرفة يوم كان منتمياً إلى «القوات اللبنانية»، وكذلك توم باراك الثري الزحلاوي الذي تجمعه بترامب صداقة البحث عن الثروة.
أما بالنسبة إلى العرب المسلمين الذين يشكلون في الولايات المتحدة ما نسبته واحد في المئة من عدد السكان، فإن تهجّم ترامب المتواصل على المسلمين الأميركيين لم يترك لهم أي خيار سوى الرفض والمقاطعة.
وكان المرشح الجمهوري اقترح حظر هجرة المسلمين من الخارج، ومراقبة المسلمين الأميركيين في الداخل. واتهم أعداداً كبيرة منهم بالتواطؤ لتنفيذ عمليات إرهابية داخلية، فيما يتهمه المسلمون بأنه يمثل خطورة بسبب التهديد المتواصل من جماعته وأنصاره.
وختم ترامب موقفه المتطرف بوعد قدّمه لبنيامين نتانياهو، خلاصته أنه سيعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. وفي اللقاء الذي تم بينهما قبل المناظرة بيوم واحد، أعرب المرشح الجمهوري عن نيته إقناع الفلسطينيين بضرورة الاعتراف بالدولة اليهودية.
ومع أن ترامب انتقد الإدارات الأميركية السابقة لسخائها المتواصل في المساعدات الخارجية، إلا أنه استثنى إسرائيل بحجة «تقوية التعاون العسكري مع شريك استراتيجي في الشرق الأوسط، يعمل دائماً على محاربة الإرهاب الإسلامي المتطرف».
المؤسف في هذا السياق أن الجالية المسلمة في الولايات المتحدة لم تعد متحمسة لانتخاب أي من مرشحَي الحزبَيْن. والسبب أن كلينتون في مواقفها المعلنة كانت أشد قسوة على أفراد هذه الجالية من منافسها ترامب. ففي خطابها الشهير في كليفلاند، تطرقت إلى حادث إطلاق النار الذي أودى بحياة 49 شخصاً بواسطة الأميركي من أصل أفغاني عمر متين.
وبدل انتظار نتائج التحقيق، سارعت إلى القول أن الوقت حان لتمنع دول إسلامية مواطنيها «من تمويل منظمات متطرفة… يجب أن يكفّوا عن دعم مدارس ومساجد متطرفة دفعت بعدد كبير من الشبان على طريق الانحراف العقائدي. قد يكون إرهابي اورلاندو مات… لكن الجرثومة التي سمّمت روحه لا تزال حيّة. لذلك، في حال فوزي، سأكشف عن هويات الذئاب المنفردة، وسيكون اعتقالهم في الداخل أولوية بالنسبة إليّ».
على كل حال، أشادت الدول الأوروبية بالخطوة المتقدمة التي أقدم عليها الحزب الديموقراطي عندما سمّى هيلاري كلينتون أول امرأة مرشحة للرئاسة. تماماً مثلما حظي الحزب سنة 2008 بإشادة مماثلة عندما سمّى باراك أوباما أول مرشح أميركي من أصول أفريقية لمنصب الرئاسة. ورأت الحركة النسائية في هذا القرار إنصافاً لنشاط استمر 97 سنة، بعد نيل المرأة الأميركية حق التصويت في 4 حزيران (يونيو) 1919.
الرئيس أوباما قرر المحافظة على هذا الخط السياسي، من خلال دعمه حليفته في البيت الأبيض كلينتون. لذلك أعلن في المهرجان المشترك الذي أقيم في ولاية كارولاينا الشمالية أنه «على استعداد لتسليم المهمة الى هيلاري. لماذا؟ لأنه لم يسبق أن كان هناك رجل أو امرأة أكثر أهلية لهذا المنصب مثلها. فهي تتمتع بحس القيادة. وقد برهنت على ذلك لدى توليها رئاسة الديبلوماسية الأميركية على مدى أربع سنوات خلال ولايتي الأولى».
وكان الديموقراطي بيرني ساندرز، المنسحب من السباق الرئاسي، قد وضع كل ثقله لدعم منافسته السابقة بهدف ضمان وحدة الحزب. لكنه لقي استياء شديداً من أنصاره الذين رفضوا تجيير أصواتهم لأي مرشح آخر.
في ضوء هذه الاعتبارات، تبدو المرشحة كلينتون وكأنها معتمدة في فوزها على المجموعتين الأكثر تأثراً بالرئيس أوباما، أي السود واللاتينيين. لذلك ركزت نشاطها في الأسابيع الأخيرة على القضايا التي تستميل البيض ذوي الأصول الأوروبية الذين يعتمد عليهم ترامب لكسب معركته.
بيد أن ترامب يدّعي أنه يعمل خارج المؤسسات السياسية التقليدية، وأنه يملك برنامجاً عظيماً لتغيير الولايات المتحدة. وهذا بعض ما اختصره في المناظرة بهذه الكلمات: «سأضع مصالح البلاد أولاً، لأن عقيدتي تستند إلى الأمركة لا العولمة. سأعمل من أجل الذين فقدوا وظائفهم بسبب الاتفاقات التجارية، والرجال والنساء المنسيين في بلادنا. من أجل الناس الذين عملوا في شقاء ولم يعد لهم صوت. لهؤلاء أقول: أنا صوتكم».
وخوفاً من انتشار هذه العبارات الديماغوجية، اضطرت هيلاري إلى أن تسأله، أثناء المناظرة، عن مصدر ثروته. وأجابها بلهجة المفتخر: «ساعدني والدي بادئ الأمر، بمليون دولار. ثم ورثت عنه أربعين مليون دولار. وأنا حالياً أملك إمبراطورية عقارية تصل حدودها إلى أقصى المعمورة. وقريباً، ستصل حدودها إلى البيت الأبيض»!
وعندما سمع الرئيس السابق جورج دبليو بوش هذه العبارات، علّق عليها بالقول: «أشعر بالقلق من احتمال أن أكون آخر رئيس جمهوري أميركي»!