سيظهر أنّ التعتيم الذي فرَضه رئيس مجلس النواب نبيه برّي على اللقاء الأوّل بين تيار «المستقبل» و«حزب الله» عشية الميلاد كان في محلّه، فجولاتُ موفدي الطرفين على حلفائهما بعد النائب وليد جنبلاط تشي بوجود توجُّه جديد يمكن أن يعطي لهذا الحوار أبعاداً قد تمتدّ على مساحة الوطن. فما هي الدوافع إلى هذه القراءة؟
يسود الاعتقاد أنّ الحوار الذي بدأه تيار «المستقبل» و«حزب الله» في ضيافة الرئيس نبيه برّي ورعايته لا يمكن أن يقود إلى جديد يُغيِّر شكلَ الصراع في لبنان ومضمونَه، طالما إنّ الاستحقاقات الكبرى، ومنها انتخاب رئيس الجمهورية، باتت ورقةً في أسواق المفاوضات الإقليمية والدولية بعدما تخلّى اللبنانيون عن حقّهم في اختيار الرئيس ضمن المهلة الدستورية، على رغم النصائح العربية والدولية باستعجال الإستحقاق وإنجازه على أيديهم. فقد كانوا صريحين عندما أبلغوا الجميع أنّ العالم أسقطَ ملفّ لبنان من لائحة أولوياته، وبقيَ حرصه على حماية البلد من عواصف المنطقة.
إنطلقَ أصحاب هذه النظرية من استعراض حركة المواقف التي سبقت اللقاء الأول، فكلّ الملفات الخلافية شُطبت من جدول الأعمال على رغم قدرتهما على إسقاط أيّ بند وإحضار آخر بين جلسة وأخرى.
ومرَدُّ ذلك الى المخاوف التي عبّر عنها القادة المسيحيون من حلفائهما قبل المستقلين، والتحذير من تحوّل الحوار الثنائي حلفاً رباعياً يضمّهما إلى راعيَي الحوار برّي ومن قبله جنبلاط، ما أثار «نقزة مسيحية» لم يُخفِها أحد من الحلفاء، وحلفاء الحلفاء لدى الطرفين.
على هذه الخلفيات سارَع طرفا الحوار إلى وضع حلفائهما في أجواء الجولة الأولى. فزيارتا وزير المال علي حسن خليل ونادر الحريري إلى جنبلاط شكّلتا رسالةً قوية لحضوره المعنوي على طاولة الحوار، ولو لم يحضر شخصياً، كما شكّلتا بداية جولة واسعة قام بها الطرفان على مختلف الأقطاب.
وقبل أن يخرقَ وفد حزب الله أمس «الحصار المضروب» على بكركي، كان نادر الحريري سلكَها في بداية جولته المسيحية العلنية واستكملها بعيداً من الأضواء الى معراب ليلة الميلاد، ما يوحي بزيارة مماثلة الى بكفيا قد تكون حصلت أو أنّها على الطريق، ليكون الجميع في ضوء ما جرى، ويجري بحدوده الدنيا والقصوى.
فالحوار لن يكون مغلقاً على الطرفين المتواجهَين حول طاولة عين التينة، وسيكون في جانب منه نيابةً عن طرفي الصراع، على رغم التمايز الذي يمنع الفرزَ الحاد بين مكوّنات البلد، وأبعد من تركيبة «8 و14 آذار» على ما يقول زوّار عين التينة وكليمنصو.
وعلى هذه الخلفيات، توسَّعَت القراءات لما هو منتظر بعد الجولة الأولى من الحوار في كلّ الاتّجاهات السلبية والإيجابية.
فهامشُ المناورة واسع بعدما فرض برّي نوعاً من «الغموض البنّاء» حول مجريات الجلسة، والذي فاجَأ به الجميع، بمن فيهم أبطال الحوار، وكلّ مَن أحاط أو ابدى اهتماماً بالموضوع. بدليل أنّه لم يتسرّب من اللقاء سوى الإشارة الى وجود طبَق «الفريكة الجنوبية» و»المقبّلات الإيرانية» على طاولة العشاء، وشكليّات أخرى وعموميات لم تلامس جوهرَ ما حصل.
فاللبنانيون لم ينسوا بعد المواقف التي أُطلِقت قبل الجلسة الأولى، ومنها تصريحات رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، والتي تلاقت في شكلِها ومضمونها مع كلّ المواقف التي صدرَت من الرياض، وعلى لسان السفير السعودي علي عواض عسيري الممدّدة خدماته الديبلوماسية في بيروت إلى أجل غير محدود، وهو ما أراحَ الأجواء في البلاد من دون أن تخفيَ هواجس البعض من سيناريوهات لا توحي بالإنجازات الكبرى المنتظرة عندما يتوسّعون في قراءة ما يريده كلّ طرف من هذا الحوار. وإلى أن تنجليَ النتائج الفعلية للحوار،
وما يمكن أن يُحقّقه، لا بدّ من إعطاء الفرصة لأصحاب النيّات الحسنة على أمل أن تنعكس نتائجه على الحياة السياسية في البلد. فلا تقتصر التحرّكات على المعايدات وتخفي خلفَها المقالب والكمائن التي ذاقت منها البلاد ما يكفي، وعطلت فرَصاً كثيرة للإنقاذ ضاعت هباءً.