يجرِّب السعوديون سياسة جديدة بعد تاريخٍ لهم من المهادنة والمسايرة، ويَغضبون خصوصاً من حلفائهم الأميركيين الذين عقدوا الصفقة مع إيران. فهل تنجح الرياض في إقامة توازن الرعب الإقليمي؟
عندما ذهب الأميركيون إلى الاتفاق النووي مع إيران، بعد الاتفاق الكيماوي مع الروس في سوريا، قرَّر السعوديون أن يواجهوا بأنفسهم، وألّا يعتمدوا على أحد. ولكن، كان الدولاب قد دار دورته في سوريا والعراق ولبنان، ووصل نفوذُ إيران إلى الداخل الخليجي من طريق اليمن.
إعتمد السعوديون «عاصفة الحزم» لضمان استقرار الخليج. وعندما أعدموا الشيخ نمر النمر بعثوا برسالة تؤكد استعدادهم للذهاب إلى الحدّ الأقصى. ويبدو أنّ إيران لم تنزعج من إجراء مقايضة مرحلية: ليكن لكم استقراركم في الخليج، ولنا السيطرة في سائر الشرق الأوسط.
لكنّ السعوديين يريدون التمسك بما بقيَ من أوراق لهم في الشرق الأوسط وتفعيلها: في سوريا، إثبات حضورهم في الملف السوري بجمع المعارضة إلى طاولة المفاوضات. وفي لبنان، استنفار الحلفاء والضغط اقتصادياً ومالياً وسياسياً إذا بقيَ لبنان الرسمي «شوكة في خاصرتهم».
الوسطاء الذين يتحركون لإقناع السعودية بالتراجع عن قرارها تجاه لبنان يفشلون لأنهم لم يستطيعوا استيعابَ النقمة السعودية. ومن هؤلاء الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي فاوض أخيراً ولي العهد الأمير محمد بن نايف.
وقد رغب هولاند في زيارة لبنان، هذا الشهر، في محاولةٍ لقطف ثمار الوساطة ولاسيما مع «حزب الله» في ملف الرئاسة وسواه. فباريس ترغب في استعادة العلاقات الجيدة مع طهران، وتحاول الانفتاح على نظام الرئيس بشّار الأسد، لاقتناعها بأنّ محاولات إسقاطه باتت من الماضي.
ولذلك، تَحرَّك وفد فرنسي أمني في الأسابيع الأخيرة عبر بعض الخطوط الفاعلة في بيروت، طالباً المساعدة على تنظيم لقاءات بين أعضاء الوفد ونظرائهم الأمنيّين في دمشق، ما يفتح الباب لترميم العلاقات سياسياً.
ولكن، يبدو أنّ القرار النافذ في الرياض، خصوصاً من جانب ولي ولي العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، قضى بالاستمرار في التشدُّد، ليس في لبنان فحسب، بل في الشرق الأوسط كلّه. فالنهج السعودي الحالي يراهن على أنّ المواجهة لا المسايرة هي التي ستضمن للرياض موقعاً إقليمياً وتصون استقرار الخليج.
أعلنت الرياض رسمياً أنها لن تتراجع عن تدابيرها. وتبيّن للفرنسيين واللبنانيين، الذين راهنوا على تراجعها وحليفاتها عن التدابير العقابية، أنّ رهانهم ليس في محلّه. وهكذا، تضاءلت الجدوى من زيارة هولاند، سواءٌ في الملف الرئاسي أو في تثمير الخطوة لتحسين العلاقات مع الأسد وطهران.
وفي الأيام الأخيرة، ترجم السعوديون قرارهم بخطوات جديدة:
– ملامح وقف التحويلات المصرفية إلى لبنان، ولو جزئياً في الوقت الراهن.
– إستمرار التشدّد في التعاطي مع المقيمين القريبين من «حزب الله» وشروط عملهم.
– إقفال مكاتب «العربية» في بيروت. وقد جاء الرسم الكاريكاتوري في جريدة «الشرق الأوسط» ليؤجّج النار. وقد لا يكون نشره متعمَّداً، لكنه يكشف حجم الاحتقان.
ويؤكد الذين يتواصلون مع الرياض أنها ستمضي تصعيداً في التدابير ما لم تعلن الحكومة اللبنانية أنها تتنصّل من «حزب الله» وتتبنّى في شكل واضح، قولاً وفعلاً، سياسة داعمة للسعودية.
وقد يصل الأمر إلى تضييقٍ مالي واقتصادي، خصوصاً بالنسبة إلى العاملين في السعودية ودول مجلس التعاون التي تبدو حماستها متفاوتة، لكنها لا تخرج من النهج الذي ترسمه الرياض. ويمكن أن تبلغ الأمور حدود تقليص التمثيل الديبلوماسي.
وهذا النهج لا يعني لبنان وحده، بل إنّ ذوي القرار في الرياض يريدون تطبيقه تجاه أيّ بلدٍ عربي يتمتّع بدعمهم. فمَن يتلقّى المساعدة من السعودية عليه أن يدافع عنها لا عن خصومها. فسياسة التهاون السابقة هي التي شجّعت إيران على توسيع سيطرتها في المنطقة.
وفي الأيام الأخيرة، ظهر فتورٌ سعودي- أردني بعدما نشرت وسائلُ إعلام أميركية كلاماً منسوباً إلى الملك عبدالله خلال لقائه في واشنطن أعضاء في الكونغرس، مطلع العام، يقلّل فيه من أهمية المحور الذي تقوده السعودية ضدّ الإرهاب.
ونُقِل عن عبدالله أنه حاول إقناع السعودية بأن تكون مصر ركناً أساسياً في هذا المحور، ما يجعله أشدّ فاعلية ضدّ «داعش». لكنّ السعوديين لم يتجاوبوا. ثمّ سارع الملك الأردني إلى نفي الكلام المنشور، تطويقاً للأزمة مع السعودية. لكنّ ترسبات بقيت على رغم النفي.
المطلعون يقولون إنّ السعوديين يتفهّمون أنّ التركيبة الحالية في لبنان تمنعه من مغادرة المحور الإيراني. فمعادلة القوة فيه ليست لمصلحة حلفاء السعودية. كما أنّ هؤلاء الحلفاء لا يريدون في أيّ شكل مواجهة لبنانية – لبنانية، ولو كان ثمنها أن يقطع السعوديون الدعم عنهم. والدليل أنّ تيار «المستقبل» نفسه رفض اعتبار «حزب الله» إرهابياً.
لكنّ السعودية تريد من الحلفاء أن يتحرّكوا ويثبّتوا مواقعهم. وهي شجعت الرئيس سعد الحريري على العودة إلى لبنان لملء الفراغ القيادي السنّي. وهذا ما فعله. لكنّ الرجل مدَّ جسوراً غير مباشرة مع «حزب الله»، تحسّباً للآتي.
لا يستطيع حلفاء السعودية أن يعتمدوا الأسلوب الهجومي المقترح عليهم، لأنّ الواقعية اللبنانية تمنعهم من ذلك. كما أنهم لا يستطيعون الخروج من الرعاية السعودية لاعتبارات استراتيجية.
ولذلك، يأمل هؤلاء الحلفاء في أن تنتهي سريعاً هذه المرحلة الشديدة الإرباك، والتي دفعتهم إلى الاعتراف بأنّ موقع رئاسة الجمهورية في لبنان بات لحلفاء إيران حصراً. لكنّ المفارقة هي أنّ السعودية، إذ تسحب يدها من لبنان، لا تستفيد من قرارها بشيء، كما لا يستفيد حلفاؤها اللبنانيون، بل خصومهم.
يقول السعوديون للحلفاء: العقوبات موقتة. وما عليكم إلّا الصمود، لأنّ ضغوطنا ستنجح في إعادة التوازن إلى لبنان، والحدّ من النفوذ الإيراني. وعندذاك، سنعوِّضكم ونعوِّض الدولة اللبنانية كلَّ ما خسرتموه.
ويعتقد بعض ذوي القرار في الرياض أنّ هذه الفرضية ممكنة، وفي أيّ حال، ليس هناك من سبيل آخر لدى السعودية لإثبات موقعها. لكنّ آخرين يخشون حصول العكس، أي أن تستفيد إيران من الانسحاب السعودي لفرض نفوذها بقوة المال والأمن والسياسة، وعندئذٍ، لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء.
لذلك، يسأل البعض: هل هناك قوى دولية كبرى تشجّع البعض، في داخل بعض الإدارات الخليجية، على المضي في الاتجاه الانسحابي من لبنان ودول عربية أخرى، بعد الانسحاب من سوريا، تنفيذاً لـ»أجندة» دولية بإخلاء «الهلال الشيعي» لإيران؟
ففيما تخرج السعودية طوعاً من معادلة التوازن في لبنان، يتعمَّد «حزب الله» التصعيد في وجهها بحملات غير مسبوقة، لإبقاء العلاقات مع لبنان متشنجة، ومنع الرياض من التراجع عن تدابيرها، ودفعها إلى المضي في الانسحاب من لبنان.
فالبديل الإيراني جاهز، وهو ينتظر أن يبدأ لبنان بالصراخ فلا يستمع إليه أحد سواه. وعندئذٍ، ستنزل إيران بثقلها إلى الساحة، بعدما أنجزت عملية تبييض السجل مع الغرب.
إنه «كباش» إقليمي عنيف. وربما تفضّل السعودية أن تخوضه ولو كان هناك احتمال الخسارة، لأنّ ذلك أفضل لها من الانسحاب الطوعي المبكر.
هل ستربح السعودية في لعبة «الصولد»؟ إنتظار الجواب يحتاج إلى مزيد من الوقت. لكنّ الرابح هنا سيربح كثيراً، والخاسر سيبقى خاسراً لسنوات طويلة.