لم يعد خافياً أنّ هناك صلة وثيقة بين خطر الإرهاب على لبنان وبين الحضور الكثيف للنازحين السوريين فوق أرضه.
على رغم أنّ هذه المشكلة موجودة في كلّ دول الجوار السوري، لكنّها احتوتها نسبياً عبر تنظيم حضور النازحين بالتفاهم التفاوضي مع الدول الغربية خصوصاً الأوروبية منها ذات المصلحة بمنع تسرّبهم إلى أراضيها.
لكن في لبنان تتحوّل هذه المشكلة إلى أزمة عميقة، نظراً لغياب موقف لبناني رسمي ووطني موحَّد يُحدّد شروط لبنان وواجباته داخل مهمة إسهامه في حلّ أزمة النازحين السوريين.
ويرى ديبلوماسيون في بيروت أنّ الصدمة التي أحدَثتها غزوة الانتحاريّين على القاع، لا تتأتى في الأساس من العامل الأمني الذي كان متوقعاً داخل الكواليس الأمنية، بل من واقع أنّ الموقع الجغرافي والطابع الديني الذي تمتاز به القاع ساهم في إعطاء صورة مصغّرة ولكن نافرة، عن مدى انكشاف استقرار الديموغرافيا اللبنانية بفعل النزوح السوري، وأوضح بالتالي مدى التبدّل الجوهري والسريع الذي أحدثه هذا النزوح داخل الواقع الديموغرافي اللبناني.
لقد أظهر مشهد أحداث بلدة القاع أنّه في ظرف خمس سنوات فقط انشطرت هذه البلدة الى بيئتين ديموغرافيّتين مختلفتين: الأولى تُمثل الغالبية السكانية النازحة من سوريا وتقع في خراجها (منطقة مشاريع القاع يقيم فيها ٣٠ الف نازح سوري) والثانية تُمثل مواطنيها اللبنانيين المسيحيين الأصليين وتقع داخل البلدة.
وفي مقابل تضخّم أعداد النازحين الوافدين إليها، شهدت البلدة خلال الفترة نفسها تناقصاً في سكانها قارب النصف (من أصل سكانها الستة آلاف بقي منهم الآن ثلاثة آلاف).
المشهد الثاني الذي أوحت به أحداث القاع يتعلق بتأكيد معادلة أنّ اهتزاز التوازن الديموغرافي في المناطق الحدودية اللبنانية الشمالية من شأنه أن ينقل «عدوى غرائز» الحرب الأهلية من سوريا الى لبنان.
ومن شأنه أيضاً أن يُكرّر في هذه المناطق مشهد أحداث المناطق الحدودية في جنوب لبنان نفسه خلال ستينات القرن الماضي. وهذا الاستنتاج تُعزّزه واقعة أنّ هجوم الانتحاريين على القاع تصاحب مع نزول مواطنيها اللبنانيين بسلاحهم للدفاع عنها.
وكان جنوب لبنان عاش مشهداً مماثلاً بعد «اتفاق القاهرة»، حيث بادر مواطنو قراه الحدودية الأمامية إلى حمل السلاح لحماية أنفسهم ضدّ إسرائيل. ومن داخل هذا التطوّر الذي قادت استتباعاته لإبرام «اتفاق القاهرة»، تسرّبت لاحقاً نزعات أخذ الاحزاب ومن ثمّ الطوائف ناصية المبادرات العسكرية بيدها للدفاع عمّا تعتقد أنّه يُهدّد وجودها، وبذلك ذهب البلد إلى حرب أهلية.
ثمّة أمر خطير آخر أشّرت إليه أحداث القاع، ويتمثل في أنّ لبنان يتّجه حالياً ليصبح البلد الرقم واحد في تحمّل عبء ما يُسمّى «اللجوء النوعي» الذي يمثل النتائج الاجتماعية لأكبر مشكلتين في المنطقة (الفلسطينية والسورية). ولا يمكن النظر من دون قلق إلى حقيقة أنّ لبنان بات «بلد اللجوءَين الفلسطيني والسوري» في آن واحد، بحيث يشكل هؤلاء حتى الآن أكثر من ثلث سكانه.
والواقع أنّ المعاني والخلفيات المكثّفة الآنفة التي قدّمتها أحداث القاع، تضع لبنان أمام خيار الانتقال إلى رسم خيارات عميقة لمواجهة أسباب الازمة وليس فقط نتائجها.
والمطروح في هذه المرحلة أمران:
الأول، سياسي داخلي ويتصل بتأكيد موقفين:
أ – إعلان قضية النازحين السوريين قضية وطنية عليا يتوجّب إنجاز موقف رسمي موحّد في شأنها وإبعادها من دائرة السجال السياسي الضيّق.
ب – التزام كلّ الأحزاب اللبنانية عدم أخذ المبادرة العسكرية خصوصاً في القرى الأمامية في البقاع، وإبقاء هذه المهمة في عهدة مرجعية الدولة اللبنانية حصراً.
الامر الثاني: يتعلق بأن يصوغ لبنان موقفاً تفاوضياً مع المجتمع الدولي، خصوصاً مع المفوضية الاوروبية لجهة مقاربة قضية النزوح السوري في لبنان من مختلف جوانبها.
وهذه النقطة باتت ملحّة الآن، خصوصاً بعد بدء المفوضية الأوروبية بتطبيق اتفاقها مع تركيا حول أزمة الهجرة واللجوء، واتخاذها قراراً «يعتبر هذا الاتفاق العنصر الأهمّ الذي استطاعت تقديمه للسيطرة على أزمتي الهجرة والنازحين السوريين التي تعصف بأوروبا»، وحوّلته (أي اتفاقها مع تركيا) رسمياً نموذجاً اعتمدته وستعتمده مع دول أخرى، منها لبنان وذلك من خلال ما يسمى بالـ «compact».
وبموجب نموذج الاتفاق الاوروبي التركي، بات لبنان وإذا أحسن التفاوض يستطيع محاكاة موقف أنقرة التي فرَضت شروطها في مقابل قبولها بما هو مطلوب منها لحماية النازحين السوريين في تركيا. فمثلاً إجراءات «الحماية الدولية» و»لمّ الشمل» و»معايير اللجوء الإنساني» للنازحين السوريين في تركيا والتي تستضيفهم على أساسها، وإعطاؤهم أذونات العمل، لم تعد مطلوبة من تركيا فقط، بل أصبحت أوروبا شريكة في استضافة جزء منهم.
كما أنّ المساعدات المالية لأنقرة لقاء استضافتها النازحين السوريين أصبحت تشمل تقديماتٍ أوروبية مادية مباشرة وأيضاً سياسية بينها تسريع بتّ انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي.
تكمن الخشية الآن في أنّ المفوضية الاوروبية ستسعى لتطبّق مع لبنان المعايير الواردة في اتفاقها مع تركيا، لكنّ حقوق لبنان في مقابلها ستكون مسؤولية المفاوض اللبناني الذي عليه كسب الأثمان نفسها التي حصّلتها أنقرة سواءٌ السياسية أو المادية أو التشريعية القانونية…