الهجوم الذي شنه فلسطينيان من سكان القدس الشرقية على كنيس يهودي وأسفر عن مقتل اربعة أشخاص وجرح 13 آخرين، يشير الى المنعطف الخطير الذي اتخذه تطور الأحداث والمواجهات التي دارت في الفترة الاخيرة بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية، والتي بلغت ذروتها مع موجة حوادث الدهس والطعن والاغتيال والمواجهات التي ذهب ضحيتها عدد من الفلسطينيين واليهود. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل تحول الصراع القومي بين الإسرائيليين والفلسطينيين صراعا دينيا بين اليهود والمسلمين؟ واي تأثير لمشاهد الذبح التي يقدم عليها تنظيم “الدولة الإسلامية” في التحريض على موجة العنف الأخيرة التي تشهدها شوارع القدس الشرقية وفي ايجاد جيل جديد من الانتحاريين الفلسطينيين؟
دور اليمين المتطرف
مما لا شك فيه ان عمليات التحريض التي قام بها اليمين القومي الإسرائيلي على الفلسطينيين بعد خطف الشبان الإسرائيليين الثلاثة وقتلهم في الضفة الغربية في حزيران الماضي، وحرق فتى فلسطيني حياً على أيدي مستوطنين يهود انتقاماً، وتحرك اليمين المتدين ومطالبته بحق اليهود في الصلاة في الحرم القدسي الشريف، واقفال الشرطة الإسرائيلية اكثر من مرة المسجد الأقصى في وجه المصلين ومنعهم من دخول باحته، ومطالبة عدد من اعضاء الكنيست من احزاب اليمين بتغيير الوضع القائم في الحرم والسماح لليهود بالصلاة هناك، كل ذلك أجج المشاعر الدينية لدى المسلمين الذين اعتبروا ان اماكنهم المقدسة عرضة للانتهاكات الإسرائيلية، وزاد مخاوفهم من ان تكون إسرائيل في صدد التخطيط للسماح لليهود بالصلاة في الحرم مثلما فعلت قبل سنوات عندما فرضت حق اليهود في الصلاة في الحرم الإبرهيمي بمدينة الخليل.
كما ان اقدام يهود متطرفين على احراق مساجد في الضفة الغربية، وعدم جدية الاجهزة الإسرائيلية في معاقبة المعتدين، في حين تنزل الشرطة اقصى العقاب بأي عربي يرتكب جنحة بسيطة مثل رمي حجار على رجالها تصل الى السجن أشهراً. كل ذلك عمق الى حد كبير مشاعر العداء والكراهية بين اليهود والمسلمين، وساهم في اضفاء الطابع الديني على الصراع. واذا اضفنا الى ذلك سياسة التمييز التي تمارسها إسرائيل ضد العرب في القدس الشرقية، واحساس الاحباط واليأس والحائط المسدود الذي يعيشه الفلسطينيون عموماً منذ انتهاء عملية “الجرف الصامد” على غزة والضائقة الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها الفلسطينيون عموماً، كل ذلك كان له دور كبير في زيادة حدة التوتر، وعجل في تقويض التعايش الهش الذي كان سائداً في القدس الشرقية.
الانتحاريون الجدد
تنبئ موجة الهجمات الفلسطينية الجديدة التي تشهدها شوارع القدس الشرقية بظهور جيل جديد من الانتحاريين، الذين لا ينتمون بالضرورة الى تنظيم معين ولا ينفذون أوامر وتعليمات من القيادة، بل هم يتصرفون كافراد ويتحركون بدافع من الغضب الفردي ومن فقدان الامل والشعور بأن ليس لديهم ما يخسرونه. وهم يقررون تنفيذ هجماتهم متسلحين بما يتوافر لديهم من وسائل، وحيث تتحول السيارة والجرافة والفأس والسكين آلة للقتل. وعلى رغم معرفة المهاجم ان مصيره الموت قتلاً، فان هذا لا يثنيه عن المضي حتى النهاية وايقاع اكبر عدد مكن من الخسائر.
هذا النمط الجديد من الانتحاريين الفلسطينيين يختلف عن موجة الانتحاريين السابقة التي برزت عام 2000، ويجعل من الصعب جداً على الاستخبارات الإسرائيلية توقع الهجمات سلفاً واحباطها، لكون هؤلاء يعملون بصورة فردية غالباً. واذا كانت هذه الاستخبارات قادرة على التسلل الى التنظيمات والتنصت على الناس والتجسس عليهم، فإنها عاجزة عن دخول عقولهم ومعرفة ما يخطط له أشخاص قرروا في صباح يوم معين بعد خروجهم من منازلهم ان يتحولوا شهداء.
لكن الهجوم الاخير على الكنيس في القدس الشرقية يختلف عن غيره من حيث اختيار الهدف والتوقيت. وفي رأي المحلل العسكري في “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي، ان اختيار مكان الهجوم وزمانه دليل على تخطيط مسبق ومحكم، وان استخدام الفأس والسكاكين القاطعة وليس المسدس فقط مقصود ايضاً وهو بصورة من الصور محاكاة لعمليات الذبح التي يقوم بها تنظيم “داعش” في سوريا والعراق.
ويعتقد الكاتب ان المسؤول الاقليمي عن اتخاذ الصراع في القدس طابعاً دينياً دموياً هو تنظيم “داعش” وما يفعله في سوريا والعراق، الى جانب التحريض الفلسطيني الذي يمارسه “أبو مازن” الذي حذر إسرائيل في تصريحات سابقة له من أن المس بالمسجد الأقصى سيشعل حرباً دينية، و”حماس” والحركة الإسلامية بزعامة الشيخ رائد صلاح، وكذلك العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين الذي استدعى سفيره في تل أبيب قبل مدة احتجاجاً على الممارسات الإسرائيلية في الآقصى.
بداية انتفاضة ثالثة
منذ بدء المواجهات الاخيرة بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية، بدأ الحديث داخل إسرائيل عن انتفاضة فلسطينية ثالثة. ووقت استبعد عدد من المراقبين تحول اعمال العنف انتفاضة نظراً إلى عدم وجود اطار تنظيمي يوجه التحركات الشعبية أو يحولها انتفاضة مسلحة كما جرى في الانتفاضة الثانية او انتفاضة الأقصى عام 2000، وكذلك لعدم توفر تأييد شعبي واسع وشامل مثلما كان في الانتفاضة الاولى سنة 1987 التي اطلق عليها انتفاضة الحجارة، ثمة راي إسرائيلي آخر يعتبر ما يجري انتفاضة تدريجية زاحفة ثالثة لا تقل خطورة وعنفاً عن الانتفاضتين السابقتين وخصوصا مع صعود الطابع الديني للصراع، وهي قد تشمل الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية والبلدات العربية في إسرائيل.
يضع الهجوم على الكنيس في القدس الشرقية حكومة نتنياهو امام تحد كبير وخصوصا في ظل اصوات اليمين التي تحمل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسؤولية التقصير في حماية حياة المدنيين الإسرائيليين، وتتهم محمود عباس بالمسوؤلية عن التحريض على العنف. ومن المنتظر أن تكون ردة الفعل الإسرائيلية استخدام المزيد من العنف والقمع، لكن ما يجري اخطر بكثير ويتعدى حدود معاقبة مرتكبي الهجمات بقتلهم وتدمير منازلهم، وهو يتطلب مقاربة إسرائيلية سياسية وليس امنية فقط لاحتواء التوتر وسحب فتيل التفجير، ولا يبدو أن حكومة اليمين الحالية مستعدة للقيام بها، مما يعني ان ابواب جحيم الاقتتال باتت مفتوحة على مصاريعها.