ما بعد تصنيف واشنطن «الحرس الثوري» الإيراني منظمة إرهابية سيكون مختلفاً عمّا قبله. وعلى الأرجح، هو سيفتح الباب لجيل جديد من العقوبات «النوعية» على إيران والدول الحليفة لها. وثمّة مَن بدأ يربط بين القرار المتعلق بـ«الحرس الثوري» وقرارات أخرى ستعني لبنان مباشرة.
«الحرس الثوري» الإيراني جزء من القوات المسلّحة الرسمية في إيران، وقراره مرتبط مباشرة بالسلطة السياسية هناك. وعندما يتم تصنيفه إرهابياً، فهذا يعني أنّ العقوبات على إيران تتجه نحو تصنيفها بلداً إرهابياً أو مارقاً. ولهذا الخيار تداعياته الخطرة عليها.
في المرحلة المقبلة، ستزداد الضغوط على الدول الحليفة لإيران في الشرق الأوسط، ومنها لبنان. وكذلك على الدول الصديقة أو المتعاونة مع إيران كروسيا وأوروبا. وسيكون الخناق قاسياً على القوى المحلية العاملة مع «الحرس الثوري»، وتحديداً «حزب الله»، الذي ينسِّق عملياته العسكرية بدقّة مع «فيلق القدس» في سوريا ودول عدّة في الشرق الأوسط.
حتى اليوم لم يتعاطَ الأميركيون مع كل من إيران ولبنان على قدم المساواة: في إيران، كانت واشنطن تفرض عقوبات على الدولة ككل، ومن ضمنها «الحرس الثوري». أمّا في لبنان، فهي تُحيِّد الدولة وتعتبر أنّ «حزب الله» منظمة إرهابية، وعلى لبنان الرسمي أن ينأى بنفسه عنها ويعزلها.
اليوم، تساوى «الحرس» مع «الحزب» أميركياً في التصنيف الإرهابي. وهذا ما يثير القلق في لبنان من مساواته مع إيران في فرض العقوبات على الدولة ككل. ويعزِّز القلق أنّ واشنطن تنقل إلى أركان السلطة في لبنان استياءها ممّا تعتبره مهادنة أو مماطلة أو ازدواجية في تعاطيهم مع «الحزب».
ويسود انطباع لدى الأميركيين أنّ القوى السياسية اللبنانية، التي أخذت على عاتقها إخراج «حزب الله» من نزاعات المنطقة ودفعه إلى الخيارات اللبنانية والتحوّل تدريجاً إلى العمل السياسي، سلكت طريقاً يعاكس ذلك.
فهي أتاحت له أن يتحصَّن بشرعية الدولة اللبنانية، وطوَت ملف سلاحه وقتاله في الساحات الإقليمية، ووفّرت الغطاء لنمو خلاياه في العالم، سواء بالعمل العسكري أو الأمني أو الحركة الاقتصادية والمالية. وفي الانتخابات النيابية الأخيرة تحالفت معه، وأتاحت لهذا التحالف أن يسيطر على المجلس النيابي والحكومة.
ومنذ مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم وإعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وَسّعت واشنطن حملاتها على «الحزب»، وحاولت اتّباع سبل مختلفة لدفع القوى السياسية اللبنانية إلى فكّ ارتباطها التحالفي معه. والموفدون الأميركيون إلى بيروت، في الأشهر الأخيرة، حملوا رسائل واضحة في هذا الاتجاه، وآخرهم وزير الخارجية مايك بومبيو. ولكن، لم تظهر أي نتائج.
طبعاً، بعض المعنيين يقول إنّ «الحرب بالنظارات سهلة». فـ«حزب الله» هو حزب لبناني، له أرضيته الشعبية الوازنة شيعياً، وتتعاطف معه شرائح لبنانية مختلفة. كما أنه الفريق المسلّح الوحيد في لبنان، ويتمتع بدعمٍ إقليمي واسع بالمال والسلاح والتغطية السياسية. وهو في جهوزية لمقاتلة إسرائيل وله القدرة على القتال الفعّال في سوريا، ويتحالف مع النظام فيها.
فكيف لمجموعات لبنانية لا طاقة لها أن تتمكن من إقناع هذا «الحزب» بالتخلّي عن كل هذه المكتسبات ونقاط القوة؟ وإذا كانت دول إقليمية ودولية قوية تُهادنه، وبعضها يتعاطى معه «من تحت الطاولة»، فكيف للبنانيين أن يتصادموا معه؟ والتجارب أثبتت أنّ أكلاف المواجهة مع «الحزب» ليست بسيطة.
هذا المنطق لطالما كان مدار سجالات بين قوى سياسية لبنانية وواشنطن، منذ العام 2005، عندما أبلغ أركان 14 آذار الى إدارة الرئيس جورج بوش أنهم هم الذين يتكفّلون بدفع «حزب الله» إلى «الحالة اللبنانية»، وأن لا داعي لتدخّل الولايات المتحدة في هذا الأمر.
وفلسفة «الحلف الرباعي»، الذي حَضن «حزب الله» آنذاك، كانت إجراء انتخابات نيابية تترجم هذا الهدف. لكنّ «الحزب» تمكّن من استثمار كل الأوراق المتاحة، وشقّ صفوف خصومه، واستفاد من ذلك للصعود حتى بات يتولّى معظم القرار في السلطة.
الرسائل الأميركية التي تلقّاها لبنان أخيراً تدعوه بشدّة إلى الحدّ من نفوذ «الحزب» داخل الدولة، خصوصاً بعدما دعَّم سلطته في الحكومة الحالية. ولا سبيل إلى تحقيق هذا الهدف إلّا بالطلاق بينه وبين القوى المتحالفة معه.
لم يستجب إلى هذه المطالب أيّ من حلفاء «حزب الله»، وتحديداً «التيار الوطني الحر». فيما الشريك الشيعي لـ«الحزب»، الرئيس نبيه بري، لا يعتبر نفسه معنيّاً. فـ«الحزب» له شعبيته في البيئة الشيعية، وهي تتداخل مع شعبية حركة «أمل» أحياناً، بناء على الأرضية التي نشأ فيها «الحزب» ونما، وظروف المواجهة المستمرة مع إسرائيل.
واليوم، يضع الأميركيون لبنان أمام واحدٍ من 3 خيارات صعبة:
1- إقناع «الحزب» بتبديل نهجه ومساره. وهذا أمر شديد الصعوبة في هذا الظرف.
2- فكّ الترابط بينه وبين القوى المتحالفة معه. وهذا خيار صعبٌ ومكلف، ولذلك يبقى افتراضياً.
3- تَحَمُّل المسؤولية عن جعل لبنان كله في دائرة العقوبات والاستهداف الأميركية. وهذا أمر لا يمكن أن يتحمّله لبنان. إنه مدمّر بكل المقاييس.
ويخشى البعض أن تكون الإشارات التي ظهرت من البيت الأبيض، بنحو غير رسمي، عن احتمال استهداف بري بعقوبات، مقدمة للمواجهة مع لبنان بأسره. ولذلك، ترتدي محادثات النائب ياسين جابر ومستشار رئيس المجلس علي حمدان في واشنطن أهمية خاصة.
ولكن، ثمة مَن يعتقد أنّ توجيه الأنظار إلى بري يستتبع منطقياً توجيه الأنظار إلى الحليف الآخر، الرئيس ميشال عون. وعلى الأرجح، سيكثّف «التيار» تطميناته وشروحاته للأميركيين في هذه الفترة. إذا وضع الأميركيون لبنان كلّه في سلّة «الحزب» فستكون الأكلاف كبيرة، ولا يتحمّلها بالتأكيد. فالاستقرار السياسي والمالي والأمني مرتبط بمدى التغطية التي تقدمها واشنطن للبنان. والمساعدات من مؤتمر «سيدر» وسواه، وتقويم مؤسسات التصنيف الدولية وسوى ذلك كثير، مرتبط بالعامل الأميركي.
ومشكلة لبنان أنّ فترة المماطلة قد انتهت، وأنّ واحداً من الخيارات الصعبة ينتظر. فماذا سيختار؟