Site icon IMLebanon

هل نحفظ «مياه وجوهنا»؟

الأسباب الموجبة التي يستند إليها دعاة «تطييف الاقتراع» في الانتخابات النيابية، ترتكز لمفهوم خاص للعيش المشترك وتفسير حصري للمادة 24ـ دستور. فهل يمكن أن تكون تلك الأسباب سبيلاً «لتشريع التطييف» بما هو أوسع مما عليه اليوم؟

من المسلمات القول إن الدولة لا تحتاج لنص في دستورها يشير إلى عيش مشترك بين أفراد شعبها ومكوناته. فالانتماء لوطن يفترض بالضرورة أن يكون هناك عيش مشترك ووحدة ومساواة بين جميع مواطنيه، وعندما يحصل خرق ما لذلك يكون استثناءً. وككل استثناء، لا يمكن تفسيره إلا بالمفهوم الضيق، بحيث لا يمكن الاجتهاد فيه والعمل بموجبه إلا بما جاء في متن النص الواضح والموجب لنشوئه.

والمشترع الدستوري قال «بوحدة الأرض والشعب والمؤسسات» والمساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، وحرّم «الفرز على أساس أي انتماء كان»، إلا انه في الوقت نفسه نادى بالعيش المشترك، مؤكداً أن لا شرعية لأي سلطة تناقض هذا العيش. فلماذا أكد وحدة الدولة والشعب والمساواة بين اللبنانيين وعاد للنص على العيش المشترك؟ ألم يكن تأكيده الوحدة والمساواة كافيَيْن للقول بعيش مشترك؟!

هنا يبرز شكل النظام المعتمد والمكرّس في مقدمة الدستور، فالنظام البرلماني الديموقراطي لا يقبل أحكاماً عديدة وردت في الدستور، ومنها التمثيل الطائفي في مجلس النواب، وتحديداً المادة 24 ـ دستور. فبموجب هذا النص تصبح المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في عدد النواب لا تعبِّر عن الديموقراطية التي يأخذ بها النظام، بدليل انه لو أصبح عدد المقترعين من المسيحيين ضعف عدد المقترعين من المسلمين يبقى لكل منهما نصف مجموع عدد النواب. هذا إضافة لنصوص أخرى، لذلك عمد المشترع الدستوري لسد هذه الهوة بين أصول النظام ومفاعيل بعض النصوص الدستورية المماثلة بتشريعها استثناءً.

من هنا يصبح أي نص قانوني يتعارض مع أصول النظام السياسي (البرلمانية الديموقراطية)، يتطلب لإثبات دستوريته أن يكون متوافقاً، وبوضوح تام، مع ما جاء عليه في النص الدستوري استثناءً. فالعيش المشترك لا يمكن أن يشرع ما هو عكس أصول النظام، وكذلك مع حرفية ما ورد في الدستور استثناءً لمبادئ هذا النظام. وهذا ما أخذ به المشترع منذ ظهور الحياة النيابية المنتظمة مع إنشاء المجلس التمثيلي الأول عندما نصت تلك القوانين على «الكوتا» العددية للطوائف والمذاهب في المجلس، وأرفقت ذلك بالنص على «أن جميع الناخبين في المنطقة الانتخابية، وفي كل هيئة انتخابية، بلا فرق بين طوائفهم، يصوتون جميعاً لانتخاب المرشح أو المرشحين الذين يراد انتخابهم».

هذه المادة وأمثالها لم تكن ملحة لو لم يكن توزيع المقاعد النيابية على الطوائف محدداً بقانون. وبهذا المعنى فإن هذا التوزيع يتطلب وجوباً استمرار نفاذ مضمون تلك المادة التي لم يكن موجباً لها ولا لاستمراريتها إلا «كوتا» المقاعد النيابية الطائفية. وإذا كان مطلوباً في «اقتراح التطييف» إبطالها أو تجاوزها، فلا يكون ذلك إلا بإبطال تلك «الكوتا» ليتحرر الترشح للانتخابات من الانتماء الطائفي ولا توزَّع المقاعد لا مناصفة ولا نسبياً بحيث تكون كل المقاعد متاحة لكل الطوائف.

إن المادة 24ـ دستور وردت كمادة استثنائية بامتياز ولا يمكن تفسيرها والاجتهاد فيها استناداً إلى ما ورد فيها من مناصفة. فإذا كان الاستثناء لا يُفسر إلا بالمفهوم الضيق وما تعنيه حرفية النص، فإن المادة 24 هي «مادة عددية» مفاعيلها الوحيدة تنحصر في تعديل «الكوتا» الطائفية في المقاعد النيابية، وبالتالي إلغاء ما كان يرد في جميع قوانين الانتخاب التي سبقت إقرارها. فعدد نواب كل طائفة ومذهب، الذي كان يرد في قانون الانتخاب، استُبدل بما جاءت به من أحكام كانت ملقاة على عاتق قوانين الانتخاب. فالمساواة فيها كانت بما نصت عليه، وما هو غير ذلك تركته لإرادة المقترعين. فمن أين جاء البعض ليحمِّلها عبء نصها على الانتخاب بدورتين؟

نعم، إن المساواة في العملية الانتخابية مطلوبة في جميع مراحل هذه العملية، ومن أسس المساواة فيها ما جاء في قرار المجلس الدستوري رقم 4/96 وهو التالي: «إن القانون يجب أن يكون واحداً لجميع المواطنين انطلاقاً من مبدأ إعطاء كل صوت القيمة الاقتراعية ذاتها…»، فهل ننطلق من هنا لفرض المساواة؟ علَّنا نتوصل لقانون انتخابات نيابية يحفظ «مياه وجوهنا»؟