لا يمكن تفسير التقارب بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» سوى بأنّه ينمّ عن خَلل في تحالفاتهما الوطنية، وإلّا لَما لجَأا إلى التقارب مسيحياً في ظلّ استراتيجيتين وطنيتين مختلفتين.
القاعدة التي على القوى الإسلامية إدراكها، أنّه بالقدر الذي تتجاهل فيه هواجس المسيحيين ولا تستجيب لشكواهم، بقدر ما هذه القوى المسيحية تلتف حول بعضها في محاولة لانتزاع حقوقها من خلال وحدة موقف وصف مسيحيين، بعدما استحال استعادتها من خلال وحدة موقف على المستوى الوطني. فالتجاهل الإسلامي يؤدي إلى انطواء مسيحي والعكس صحيح.
فالأمر لا يدعو للاستغراب ولا التعجب، إنما منطق الأمور يقود إلى هذا الاستنتاج الطبيعي، وبالتالي لا يجب أن تُسأل «القوات» عن سبب تقاربها مع العماد ميشال عون، إنما يجب أن يُسأل الطرف الذي لم يأخذ في الاعتبار تمسّك «القوات» بالبعد التمثيلي داخل النظام الذي حرم منه المسيحيون بفعل الوصاية السورية على لبنان، وكأن ما كتب في تلك المرحلة هو القاعدة التي تحكم البلد، فيما شكلت هذه المرحلة في الحقيقة انقلاباً على الدستور والميثاق.
ولا يجب ان تُسأل «القوات» لا عن مشاركتها في اجتماعات بكركي، ولا عن المشروع الأرثوذكسي، ولا عن «إعلان النيات»، ومن يجب أن يُسأل هو من دفع «القوات» إلى التقاطع مع القوى المسيحية من أجل تشكيل قوة ضغط على الشركاء لإقرار قانون الانتخاب الذي يجسِّد الشراكة المسيحية-الإسلامية.
فلا يوجد إطلاقاً ما يبرر الإستهتار بمطالب المسيحيين، وتحديداً «القوات اللبنانية» التي دفعت ثمن تغطيتها لإتفاق الطائف، وما زالت متمسكة إلى أبعد الحدود بهذا الإتفاق، وما تطرحه ليس تعجيزياً ولا من خارج الدستور، بل في صلبه وصلب الميثاق الوطني ويتصل بعدالة التمثيل للمجموعات اللبنانية.
وإن دلّت الممارسة منذ العام ٢٠٠٥ إلى اليوم على شيء، فقد دلّت على عدم جدية ولا مسؤولية مع مطلب «القوات»، حيث كان يُسخّف الجانب التمثيلي بحجة المعركة السيادية التي لا أفق لها لارتباطها بالبعد الإقليمي واستحالة تحييد لبنان، فيما كل الأطراف الإسلامية تخوض مواجهتها الوطنية من مواقعها الدستورية، وهي لا تشكو من خلل تمثيلي أو غيره، الأمر الذي ينطبق حصراً على القوى المسيحية.
والدكتور سمير جعجع كان شديد الوضوح في مؤتمره الصحافي الأخير بالقول إن لبنان يقوم على بُعدين سيادي وتمثيلي، وإذا كانت الاعتبارات السيادية متعذرة اليوم بفعل العوامل الإقليمية وفي طليعتها طهران وتغطيتها لسلاح «حزب الله» الإقليمي، فلا مبرر إطلاقاً لترحيل البعد الميثاقي-التمثيلي إلى ما بعد المواجهة السيادية التي تبقى مفتوحة وقائمة بانتظار الظروف التي تسمح، على غرار خروج الجيش السوري من لبنان، بإيجاد تسوية لسلاح الحزب تزامناً وارتباطاً مع التسوية الخارجية.
ومن قال إن استعادة السيادة تعني استعادة المسيحيين تلقائياً شراكتهم داخل نظام، والتجربة مع خروج الجيش السوري أكبر برهان، وبالتالي المعركة السيادية منفصلة اليوم عن المعركة التمثيلية، والتذرع بالأولوية السيادية على حساب الأولوية التمثيلية تعني الرغبة باستمرار الخلل الذي نشأ مع الانقلاب على اتفاق الطائف.
ويصعب تفسير الخفة في التعامل مع قوانين الانتخاب سوى كونها ناجمة عن رفض تصحيح الخلل المشكو منه، وهذا الرفض سيفاقم الشكوى المسيحية، ويدفع المسيحيين إلى مزيد من وحدة الصف حول عناوين مسيحية، وبالتالي التساؤل من الآن وصاعداً حول الأسباب الموجبة لتوسيع مساحة التفاهم والتلاقي القواتي-العوني مردود إلى أصحابه.
فـ«القوات» تقترب من «التيار الحر» بقدر ابتعاد شريكها الوطني في قوى 14 آذار عنها، وتبتعد عن «التيار» بقدر اقتراب هذا الحليف منها، لأن أولويتها وطنية بامتياز، ورؤيتها الوطنية تتناقض مع رؤية التيار، ولكن لا تلام «القوات» أو أي قوة مسيحية غيرها إذا فصلت بين خطابها الوطني وتحالفاتها الوطنية والمسيحية، لأن ميثاق العيش المشترك مُهدّد، والشراكة مهدّدة، والدستور مهدّد، ويستحيل تصويب الوضع قبل استعادة المسيحيين وزنهم التمثيلي، الأمر غير الممكن من دون قانون انتخاب يصحح الخلل التمثيلي.
فإذا كانت ظروف المنطقة وتعقيداتها ستبقي معركة السيادة معلّقة، لأن المعركة السيادية من طبيعة إقليمية، فإن مسؤولية تصحيح التمثيل هي لبنانية فقط لا غير، لأن المعركة التمثيلية من طبيعة لبنانية، وبالتالي لا يمكن تفسير عدم الإقدام على تبديد الهواجس المسيحية إلّا بوجود رغبة في تغييب الدور المسيحي عن سابق تصوّر وتصميم.
والقوى المسيحية تدرك جيداً أن لا شيء يتحقق في لبنان من دون الشريك في الوطن، فلا الخروج السوري كان ممكناً من دون وحدة وطنية، ولا العبور إلى الدولة ممكن من دون الوحدة نفسها، ولكن في المقابل لا يجب أن يتحقق أي شيء أيضاً من دون إرادة المسيحيين.
والمطلوب اليوم الخروج فوراً من الفخ الطائفي الذي نُصب للجميع والعودة إلى لغة العقل والسياسة، وذلك من خلال التسوية التي ترضي كل الأطراف، فأين الكارثة في إدراج بند قانون الانتخاب وترحيله، فيما الإصرار على رفض التجاوب مع المطلب المسيحي المتواضع والشكلي يفتح الباب أمام مروحة واسعة من التساؤلات حول الخلفيات والأهداف والنوايا وما يحاك داخلياً وخارجياً.
فالحكمة في تلقّف الوضع قبل فوات الأوان، وفي مطلق الأحوال لبنان أمام مشهد جديد، فما بعد 12 تشرين الثاني لن يكون كما قبله.