لا يجوز أن تبقى العلاقات اللبنانية مع المملكة العربية السعودية أسيرة المصالح الحزبية والسياسية الضيقة، وتستمر المجازفة بالمصالح اللبنانية العليا، وتعريضها للخطر من خلال رميها في وحول الزواريب السياسية المحلية، والمناورات الدونكيشوتية الفارغة!
يبدو أن بعض الأطراف السياسية تصر على نهج «الفرص الضائعة»، التي خسر لبنان بسببها الكثير من القدرات والإمكانيات التي كان بأمس الحاجة اليها للخروج من دوامة الأزمات الإقتصادية والمعيشية والإجتماعية التي يتخبط فيها طوال هذه السنوات العجاف، دون أن يرف جفن لأصحاب هذه المواقف المتشنجة، وما يمارسونه من معاندة ومكابرة في التعاطي مع الملفات الحساسة والشائكة!
والحملة المفتعلة على السعودية، والتي ظهرت فجأة في زحمة إصدار التأشيرات لحجاج بيت الله الحرام، لم تكن عفوية، وقطعاً لن تكون الأخيرة، وإن كانت مثل هذه التحاملات على المملكة تحمل عناوين مختلفة، وتنطلق من محاور متنوعة!
لقد أستنفرت السفارة السعودية كل إمكانيتها لتلبية طلبات الحجاج اللبنانيين في الوقت المناسب، في إطار المعايير المعتمدة منذ سنوات طويلة في هذا المجال، ونجحت مساعي رئيس الديبلوماسية السعودية في بيروت الوزير المفوض وليد بخاري، في الحصول على موافقة سامية من الديوان الملكي، وبأمر من الملك سلمان بن عبدالعزيز، بزيادة تعداد الحجيج اللبنانيين بهدف تسهيل إستيعاب وتلبية كل الطلبات المقدمة إلى القنصلية السعودية في بيروت.
فماذا كانت النتيجة ؟
على «طريقة عنزة ولو طارت»، بدأت الحملات المغرضة تظهر على وسائل التواصل الإجتماعي، للترويج لمزاعم لا أساس لها من الصحة، ومفادها أن العديد من اللبنانيين لم يحصلوا على تأشيرات الحج لنفاد كمية الكوتا المخصصة للبنان، وأن ما تم إصداره خضع لإجراءات إستنسابية -كذا -، إلى آخر المعزوفة التي كان أصحابها يهدفون إلى تشويه المبادرة السعودية الأخوية الجديدة تجاه اللبنانيين، وخاصة المسلمين، دون أي تمييز سياسي أو مذهبي، أو حتى مناطقي!
ولكن لا هذه الحملات، ولا ما رافقها من تهجمات على المملكة في خطاب الأمين العام لحزب الله الأخير، تستطيع أن تخفي الحقائق والوقائع التي تحيط بمسار العلاقات الأخوية والتاريخية التي تربط الشعبين اللبناني والسعودي، والتي يمكن إختصار خطوطها العريضة بالنقاط التالية، على سبيل المثال لا الحصر :
أولاً: العلاقة مع العربية السعودية والشعب السعودي الشقيق هي ملك الشعب اللبناني، ومرجعيتها الرسمية هي الدولة اللبنانية، المحكومة بمقتضيات الوفاق الوطني التي أرسى قواعده إتفاق الطائف والدستور الذي قونن بنود وثيقة الطائف.
ثانياً: لا يستطيع أي طرف لبناني، مهما كان موقعه في المعادلة الوطنية، ومهما بلغ شعوره بفائض القوة، أن يتفرد بتعريض هذه العلاقات الراسخة، وما تقوم عليه من مصالح حيوية ومستدامة للشعب اللبناني، للخطر نتيجة إلتزامات سياسية وأجندات خارجية، سبق للبنانيين أن دفعوا أثمانها الباهظة.
ثالثاً: إن الألتزام الحقيقي والجدي بسياسة «النأي بالنفس»، المتفق عليها في البيان الوزاري لحكومة العهد الأولى، يقتضي مراعاة متطلبات تحييد لبنان عن الصراعات الأقليمية المهلكة، والتي لا قدرة للبنان على تحمل تبعاتها، دون تعريض أمنه القومي وسلمه الأهلي للخطر، في وقت يكون فيه اللاعبون الكبار جالسين على طاولة التفاوض، وتقاسم النفوذ، وإبعاد اللاعبين الصغار عن منصة الفائزين في حروب المصالح …، وهذا ما بدأت ملامحه تظهر في سوريا.
رابعاً: لا بد من الإعتراف بأن تفاقم الأزمات الإقتصادية والمعيشية في لبنان، يعود في جزء مهم منه، إلى النفور الخليجي من السياسات اللبنانية الأخيرة، والتي لم تتماشى مع وحدة المواقف العربية والإسلامية، التي أيدت السعودية في تصديها للمحاولات الإيرانية العبث بأمنها الداخلي، والرد على الهجمات الصاروخية الصادرة من الحوثيين في اليمن . وبالتالي تراجع الإستثمارات الخليجية في لبنان، بل خروج العديد منها من المجالات الإستثمارية التقليدية، لا سيما العقارية، حيث الأزمة في هذا القطاع الحيوي على أشدها حالياً.
خامساً : ولا بد من التذكير، في الوقت نفسه، بأن المملكة العربية السعودية، كانت تقف دائماً إلى جانب لبنان في الملمات، وتمد أيادي الدعم والمساندة لبلسمة الجراح وإعادة الإعمار، وتعزيز الإستقرار لليرة اللبنانية، كما حصل في حرب تموز حيث أنقذت الوديعة السعودية الكبيرة الليرة من الإنهيار تحت ضغط العدوان الإسرائيلي الوحشي، فضلاً عن مسارعة المملكة في تمويل ورشة إعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية في قرى الجنوب، وفي أحياء الضاحية الجنوبية .
*****
في هذه الأيام الطاهرة، وعشية الوقوف على عرفه، لا يسعنا إلاّ أن نردد قوله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).