السؤال الذي يشغل المحافل السياسية هو لماذا ترفض واشنطن نشر تفاصيل اتفاق كيري – لافروف لوقف النار في حلب وتالياً في سوريا، وما هي تفاصيل النقاط في الاتفاقية التي تحرص واشنطن على عدم نشرها؟
واشنطن تُبرّر ذلك بأنّه سيضرّ بمسارات تنفيذ إيصال المساعدات الى المناطق المحاصرة، فيما موسكو تغمز من قناة أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما تريد حرمانها من تحوّل الاتفاقية قراراً دولياً.
وبعد غارة التحالف الدولي على دير الزور، بات واضحاً أنّ خريطة طريق لافروف – كيري لم تحلّ الخلافات الدولية في شأن هدنة حلب الموجودة منذ العام 2014، بل حاولت تجاوزها عن طريق إنشاء مسار حلّ للأزمة السورية يتكوّن من مراحل اختبار نوايا متتالية في ميدانها بين أميركا وروسيا يبدأ في حلب.
وحدّدت واشنطن أوّل امتحان لنوايا موسكو ضمن اتفاقية لافروف – كيري باشتراطها أنّها لم تُجرِ أيّ ترتيبات شراكة لوجستية أمنية مع موسكو في سوريا إلّا إذا لمست فعلياً وعلى أرض الواقع سبعة أيام من التزام النظام وقف النار ومن سلاسة وصول المساعدات الإنسانية الى الأحياء المحاصرة في حلب. في المقابل، فإنّ روسيا حدّدت نطاق اختبارها لصدق نوايا تعاون اميركا معها في سوريا بتنفيذ واشنطن لأمرين: موافقتها على نشر وثائق الاتفاقية لتفادي حصول تفسير مزدوج لتنفيذها ولجعلها اتفاقاً دولياً، ومشاركة مسؤولين عسكريين أميركيين بشكل كامل في مراقبة الهدنة مع الضباط الروس.
يبدو أنّ كلّاً من موسكو وواشنطن قرّرتا بعد مضي اقل من أسبوع على بدء تنفيذهما اتفاقية كيري – لافروف، انتهاج سلوك مراحل «عض الأصابع» بينهما، بدلاً من سلوك مراحل اختبار النوايا. ما يعني أنّ جوهر فلسفة عملية تنفيذ اتفاقيّتهما التي حملت تفاؤلاً ببدء تفاهم روسي – أميركي في سوريا انطلاقاً من حلب، قد اهتزّ الآن، وأصبح معرَّضاً للسقوط الكامل.
ما هي خلفيات ما حدث، ولماذا اهتز التفاهم الأميركي – الروسي بسرعة حول سوريا؟
«الجمهورية» حصلت على وثائق تظهر قصة تفاوض كيري – لافروف الاخيرة حول حلب، ونقطة البدء التي استندا اليها. وتُظهر قراءة هذه الوثائق المعطيات الآتية:
أولاً، نقطة البدء التي استند اليها كيري ولافروف لإنتاج اتفاقهما حول هدنة في حلب تتّسع لتشمل كلّ سوريا، هي مقترح كان صاغه الموفد الدولي ستيفان دو ميستورا العام الماضي وبقيت المفاوضات في شأنه طوال عام. وفي التفاصيل أنه عام 2014 جرت محاولة مستترة قام بها دو ميستورا لإبرام هدنة متفق عليها إقليمياً ودولياً في حلب، تُمهّد لهدنة في كلّ سوريا ولبدء مسار إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة وتليها مفاوضات سياسية بين المعارضة والنظام. وهذه بالمناسبة هي ذات آليات خريطة طريق اتفاقية لافروف كيري الراهنة.
وبحسب معلومات «الجمهورية»، فقد قامت صيغة دو ميستورا آنذاك على البنود الآتية:
أ – تجزئة الهدنة في حلب الى مراحل، أولها تكون عملية تجميد القتال في حي صلاح الدين وتفرعه «حي سيف الدولة» التابع له.
ب- إعطاء دور محدد لفصائل المعارضة.
ج – وقف النظام طلعاته الجوّية العسكرية في حلب لمدة ستة أسابيع.
حينها وافق النظام على هذا الحلّ، ورفضته المجموعات المسلّحة، لأنها اشترطت هدنة في كلّ الأراضي السورية دفعة واحدة، وهو أمر اعتبره حتى دو ميستورا بأنه غير ممكن التطبيق.
ثانياً، في مرحلة تالية وتحديداً في شباط العام الماضي، خاض دو ميستورا جولة مكوكية بين الأطراف المعنية لإنقاذ مقترحه «صلاح الدين أولاً».
وكان اللافت فيه استخدام مصطلح «تجميد القتال» وليس «هدنة»، وهذا فارقٌ يُحبّذه النظام، لأنّ مصطلح «الهدنة» يتضمّن اعترافاً سياسياً منه بوجود المعارضة، أما عبارة «تجميد القتال» فتعني تسويات أمنية وليست سياسية، وهي أقرب لمعنى استراتيجية المصالحات التي يقوم بها النظام مع مسلَّحين في مناطق ساخنة.
وفي مرحلة التفاوض على هذه الصيغة، ارتكبت المعارضة هفواتٍ تعترف بها مصادرها، وفي المقابل أحسَن النظام إدارة هذه المفاوضات. وتكشف الوثائق أنه بعد لقاء بين الرئيس بشار الأسد ودو ميستورا لنقاش تطبيقات مقترح «صلاح الدين أوّلاً»، سلّمت المخابرات السورية تقريراً إلى الأخير، تضمّن رفض مقترحه بتطبيق نموذج بيروت الغربية وبيروت الشرقية على حلب، محاكاة للوضع الذي كان قائماً في العاصمة اللبنانية ايام الحرب الأهلية، واقترح الاستعاضة عنه بما يُشبه سيطرة مشتركة بين النظام والمعارضة على الأحياء، بحيث يكون فيها للحكومة اليد العليا في إدارة شؤون الناس وإزالة خطوط التماس مع الحفاظ على وجود محسوس للمجموعات المسلَّحة بآليات محدّدة تضبطه.
ثالثاً، حاولت واشنطن في تلك المرحلة أن يتضمّن مقترح دو ميستورا (تجميد القتال)، دوراً لـ«النصرة» في تطبيقه، خصوصاً أنها تسيطر على حي صلاح الدين. رهان الأميركيين هذا تزامن مع تكاثر الحديث عن اتجاه «النصرة» لفك ارتباطها بـ«القاعدة»، وعلى تحوّلها «فصيلاً سورياً معارِضاً بأجندة محلّية، وصيغة إسلامية شعبوية من دون هوية جهادية عالمية».
ورأت واشنطن أنّ هذا التعديل في «النصرة» سيؤدي الى جعل «داعش» كلّ عنوان الساحة الجهادية العالمية في سوريا ما يسهّل على التحالف الدولي حصرها وضربها. وهذا ما يُفسّر حينها لماذا تقدّمت «النصرة» بغطاء من غض الطرف السياسي والعسكري والاميركي في شمال سوريا، حيث قضت على «حركة حزم» مستغلة عدم قيام طائرات التحالف الدولي بنجدة الأخيرة.
رابعاً، في المبدأ قامت اتفاقية لافروف – كيري الاخيرة على الآلية ذاتها التي اعتمدها مقترح «صلاح الدين أولاً»، وذلك من نواحٍ عدة مع اضافة تعديلات مستجدة عليها. فآلية التنفيذ هي نفسها: هدنة في حلب أولاً، إيصال المساعدات، هدنة في كلّ سوريا ومن ثمّ إنعاش المفاوضات السياسية بين المعارضة والنظام. أما التعديلات فتتمثل بـ:
– استبدال مصطلح «تجميد القتال» بـ«الهدنة» وهذه نقطة لمصلحة المعارضة.
– إستبدال فكرة أن تبدأ الهدنة في «حي صلاح الدين وتفرّعه حي سيف الدولة» بفكرة أن تجرى في كلّ حلب. وهذا التعديل فرضته رغبة واشنطن بوضع حدّ لتغير موازين القوى في الميدان السوري الناتج عن حصار الروس والجيش السوري لحلب. في حين أنّ واشنطن كانت تريد من فكرة «صلاح الدين أولاً» أن تواكب جهدها المستتر لتكييف «النصرة» التي تسيطر على هذا الحي، مع دور جديد لها، يفيدها في جعل «داعش» هي كلّ عنوان الجهادية العالمية في سوريا، ما يسهّل على التحالف الدولي حصارها والقضاء عليها.
– في اتفاقية لافروف – كيري الراهنة، تخلّت واشنطن عن فكرة إعادة هيكلة دور «النصرة» كما ضمر مقترح دو ميستورا، وجعلتها مساوية لـ«داعش» وهذه نقطة لصالح روسيا والنظام.
– استبدال فترة ستة أسابيع التي يمنع خلالها سلاح الجوّ السوري من تنفيذ طلعات قتالية في حلب بفترة دائمة يُحظّر فيها عليه تنفيذ أيّ طلعات قتالية في كلّ سوريا. وهذه ايضاً نقطة في صالح المعارضة، علماً أنّ موسكو اعتبرتها غير ذي أهمية لأنّ بديلها سيكون طلعات أميركية – روسية مشتركة ضد «داعش» و«النصرة» في كلّ سوريا، وأيضاً تبادل معلومات عن «النصرة» وهذا أمر ثمين لموسكو.
آنذاك برز خلاف بين دو ميستورا والأسد على مستقبل مسلَّحي حلب المعارضين، وبقيت هذه القضية عالقة، ولا يُعرف حتى الآن كيف حلَّت اتفاقية لافروف – كيري هذه النقطة، إذ تعتبر من البنود المحظّر نشرها حسب الطلب الاميركي.
السؤال الآن هو ماذا سيكون مصير اتفاقية لافروف – كيري بعد غارة دير الزور الأميركية، وتفاعلاتها السلبية على مسار بناء ثقة اميركية – روسية على مراحل؟
الاجابة عن هذا السؤال يضع هذه الاتفاقية امام مصيرين، إما انها ستنهار كما حصل لمسار مقترح دو ميستورا في العام الماضي، وإما أنّ واشنطن تقصّدت إصابتها بانتكاسة لتعود ببعض نقاطها الى «صيغة صلاح الدين أوّلاً»، وذلك تحديداً في ثلاث قضايا أساسية:
أولّها، «تجميد قتال» وليس «هدنة»، ما يجعل واشنطن متحرّرة من أيّ بعد سياسي لها، والسبب في ذلك أنّ واشنطن لا تريد إلزام إدارة هيلاري كلينتون باتفاق سياسي مع روسيا حول سوريا، وهذا ما يُفسّر عدم نشرها ومحضها توقيع الامم المتحدة.
ثانياً، لأنّ البنتاغون غير موافق على شراكة عسكرية استراتيجية مع روسيا في سوريا، بل يريد تنسيقاً محدوداً، وروحية مضمون «تجميد القتال» وليس «هدنة»، يلبي هذا الهدف للبنتاغون، خصوصاً أنه يحتاج لتنسيق محدود في هذه اللحظة التي يستعدّ فيها لإخراج «داعش» من الرقة.
ثالثاً، لأنه ثبت لواشنطن أنها تواجه مشكلة كبيرة في إقناع المعارضة بالفصل بينها وبين جبهة «فتح الشام»، واقله، تريد هذه الاطراف ثمناً لذلك، هو ادراج الفصائل الشيعية في سوريا على لائحة الارهاب في مقابل «النصرة». وعليه لجأت اميركا لنشر غيوم داكنة في مسار سلاسة تفاهمها الاخير مع موسكو لتظهر أنّ الاخيرة هي المسؤولة عن ذلك، وهدفها من ذلك إعادة التفاوض حول بعض بنوده وإعادتها الى ما كانت عليه في مقترح دو ميستورا.
لافروف كان أشار الى توجّسه من هذا الامر، وذلك قبل حصول غارة دير الزور، حيث أعلن أنه «يخشى من وجود اتجاه لإعادة شطب «النصرة» عن لائحة الإرهاب الدولية». وكان لافتاً تقصّد الطائرات الروسية خرق الهدنة في حلب حيث هاجمت حي سيف الدولة القائم داخل مربع وجود «النصرة» في حي صلاح الدين داخل المدينة. لم تكن روسيا مضطرة لخرق هدنة هي شريكة في صناعتها، لولا أنها رأت ضرورة ملحة لتوجيه رسالة لواشنطن من حي سيف الدولة، مفادها انها لن تعود إلى مربع مقترح دو ميستورا.