التوضيح لا يُلغي التصريح. هكذا تختصر مصادر مطّلعة كلامَ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن الاستراتيجية الدفاعية ومفاعيله الداخلية والخارجية. وتؤكّد أنّ اتّصالاتٍ عربية ودولية بجهاتٍ لبنانية فاعلة، وورودِ معلوماتٍ عن التحضير لإصدار مواقف وردود من جهات رسمية، معطياتٌ دفعت إلى إصدار توضيح عن رئاسة الجمهورية أمس، حول كلام عون في حوارٍ مع الإعلاميين أمس الأول في بيت الدين.
لا يُمكن توقُّعُ خروج عون في المرحلة الراهنة بموقف يدعو الى نزع سلاح «حزب الله» أو بطرحِ استراتيجية دفاعية «عمادُها» حصر السلاح في يد الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية. على رغم ذلك، أثار كلامُ عون على الاستراتيجية الدفاعية، أمس الأول، ردودَ فعل وتخوُّفاً من تأثيره خارجياً لناحية تقديم المساعدات والدعم للجيش اللبناني، وفي وقتٍ يُحكى عن عقوبات ستُطاول مرتبطين بـ«حزب الله» وحلفاء له.
توقيتُ التصريح
الاستراتيجية الدفاعية الوطنية كانت من أبرز أهداف عون الذي أعلن في شباط 2018 أنها ستكون موضعَ بحث بين القيادات اللبنانية بعد تشكيل حكومة جديدة. وكان قدّم مشروعَه للاستراتيجية الدفاعية الى طاولة الحوار الوطني عام 2008. وفي آب 2018، أكد رئيس الجمهورية لمساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الأمن الدولي روبرت كارم «العزم على الدعوة الى حوار وطني حول الاستراتيجية الدفاعية بعد تشكيل الحكومة». أمّا في 19 آب 2019، فقال عن الدعوة الى حوار حول الاستراتيجية الدفاعية: «لقد تغيّرت حالياً كل مقاييس الاستراتيجية الدفاعية التي يجب أن نضعَها. فعلى ماذا سنرتكز اليوم؟. حتى مناطق النفوذ تتغيّر. وأنا أوّل مَن وضع مشروعاً للاستراتيجية الدفاعية. لكن ألا يزال صالحاً الى اليوم؟ لقد وضعنا مشروعاً عسكرياً مطلقاً مبنيّاً على الدفاع بعيداً من السياسة، لكن وياللأسف مختلف الأفرقاء كانوا يتناولون هذا الموضوع إنطلاقاً من خلفية سياسية».
وضعُ إستراتيجية دفاعية وإيجادُ حلّ لسلاح «حزب الله» ليس مطلباً لبنانياً داخلياً فحسب، بل دولياً، ويرتبط بدعم الجيش اللبناني إن من «دول صديقة» عربية وغربية أو عبر المؤتمرات الدولية. وسبق أن شجّع الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش عون على قيادة حوار متجدّد في شأن الاستراتيجية. وأعلن المنسّق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش عقب مشاورات مجلس الأمن الأخيرة حول القرار 1701، أنّ من بين أبرز الأسئلة التي طُرحت كانت حول امتلاك الأسلحة من قبل جماعات مسلّحة مختلفة، أوّلها «حزب الله»، وقد ذكر في العديد من تصريحات ممثلي الدول في المجلس أنّ وجودَ هذا السلاح «غير مقبول». كذلك، حُكي سابقاً عن حجب مساعدات خارجية للجيش بسبب التخوّف من وصولها إلى «حزب الله»، وكذلك لأنّ أطرافاً عدة تعتبر أنّ «حزب الله» يخضع للإرادة الإيرانية، وبالتالي يُشكّل خطراً على دول ومصالح في المنطقة.
إلى الآن، لم يبرز موقف خارجي من كلام عون، إلّا أنّ مصادر مطّلعة أكدت لـ»الجمهورية» أنه «على رغم التوضيح سيُؤخَذ هذا الكلام في الإعتبار وبالتأكيد ستطلب جهات عدة توضيحاتٍ أكثر».
على الصعيد الداخلي، اعتبرت أوساط عدة أنّ كلام عون عن الاستراتيجية الدفاعية، أمس الأوّل، أتى في أسوأ توقيت، وذلك خلال وجود رئيس الحكومة سعد الحريري في الولايات المتحدة الأميركية ليفاوض على تحييد لبنان عن العقوبات وتأثيرها، وفي ظلّ الكلام على زيارة الموفد الأميركي ديفيد شينكر لإستئناف المفاوضات حول الحدود. كذلك، أتى هذا الموقف قبل أيام من صدور تقرير وكالة «ستاندرد آند بورز» حول التصنيف الائتماني للبنان. ويبرز كلام عون أيضاً في وقت أعلنت السعودية من خلال مجلس الشورى الذي زار لبنان أخيراً، وخلال زيارة رؤساء الحكومات السابقين للرياض، أنها ستبدأ بمساعدة لبنان مالياً وإقتصادياً للنهوض. وتزامن هذا الحديث أيضاً مع إعلان السفارة الأميركية عن تسليم الجيش اللبناني آليات ومعدات تبلغ قيمتها نحو 60 مليون دولار.
وكان لافتاً بالنسبة إلى البعض تصريح الرئيس، بعد 48 ساعة من خطاب الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله عن أنّ لبنان لن يقف متفرِّجاً في حال حصلت مواجهة بين إسرائيل وإيران، في حين كان عليه تبديد المخاوف الداخلية والخارجية، حول سلاح «حزب الله» وللتأكيد على سياسة «النأي بالنفس». كذلك عليه أن لا يُغفل الانقسام اللبناني العمودي والأفقي.
أمّا بالنسبة إلى تغيُّر الظروف الذي تحدّث عنه عون، فيسأل معارضون لسلاح «حزب الله»: «أيّ ظروف تغيّرت؟ هل سلّم «حزبُ الله» سلاحه؟ العنصر الوحيد الذي يغيّر الظروف ويجعل وضع استراتيجية دفاعية أمراً غير ضروري هو أن يختفي سلاح «حزب الله».
الحريري يردّ
على وقع كلام عون، عاد رئيس الحكومة سعد الحريري من واشنطن حيث حاول التأكيد أنّ «حزب الله» لا يُسيطر على الحكومة وعلى لبنان، وأتى ردّه عبر بيان كتلة «المستقبل» النيابية التي أكّدت بعد إجتماعها الأسبوعي أنّ «موضوع الاستراتيجية الدفاعية يجب أن يكون بنداً دائماً على جدول أعمال الحوار الوطني». وأشارت إلى أنّ «أصدقاء لبنان رحّبوا بالتوجّهات التي سبق الإعلان عنها في شأن تجديد الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية والتي شكّلت في حينه عاملاً من عوامل نجاح مؤتمر روما الخاص بدعم الجيش اللبناني، وسيكون من المفيد للمصلحة الوطنية في هذا السبيل، توجيه رسائل إيجابية لشركاء وأصدقاء لبنان تؤكّد التزامَ دور الدولة في تعزيز المؤسسات الشرعية وحماية خطوط الدعم المقرَّرة للجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية».
موقف الحريري في هذا الإطار واضح ويؤكّده في كل المواقع والمواقف ولن يتغيّر، لذلك لا داعي لأن يُصدِر رداً مباشراً منه، حسبما تؤكّد مصادر تيار «المستقبل» لـ«الجمهورية». أمّا بناء الاستراتيجية الدفاعية، بالنسبة إلى «المستقبل» فيُفترض أن «يستند إلى منطق الدولة والسيادة فلا يُمكن أن يكون هناك سلاح خارجاً عن شرعية الدولة وخاضعاً لقيادتين واحدة داخل لبنان وأخرى خارجه، لذلك على الاستراتيجية الدفاعية أن تكون مبنيّةً على ركيزة أساسية، وهي أنّ كل سلاح على الأراضي اللبنانية لا يُمكن أن يكون شرعياً إلّا إذا كان خاضعاً للسلطة الشرعية». وترى أنّ امتناعَ عون عن القيام بدوره في إجراء حوار وطني حول الاستراتيجية يؤدّي إلى «مزيد من التدهور وكشف لبنان خارجياً ويزيد الإحتقان بين الفئات اللبنانية».
«القوات» تخالف الرئيس
أمّا حزب «القوات اللبنانية» الطرف الآخر المُشارِك في الحكومة والذي دأب في التشديد على المطالبة بإقرار استراتيجية دفاعية، فيخالف موقف عون حول الاستراتيجية الدفاعية، فـ»القوات» تعتبر أنّ «الاستراتيجية الدفاعية لا تخضع لأيِّ تبدّل أو تغيّر في المعطيات الميدانية، أكانت داخلية أو خارجية، وأنّها مسألة ثابتة ومن البديهيات اللبنانية الداخلية كالسيادة والاستقلال والحرية والديموقراطية».
وترى أنّ «الاستراتيجية الدفاعية لا تستدعي أيَّ بحث لتحقيقها، بل إنها قائمة على ركيزتين أساسيتين: الأولى سياسية استراتيجية، وهي أن يكون القرار السياسي الاستراتيجي المتصل بالحرب والسلم بيد الحكومة اللبنانية حصراً وليس بيد فريق أو حزب أو ميليشيا أو فصيل. أمّا الثانية عسكرية، أي أن لا سلاح خارج إطار الجيش اللبناني والمؤسسات الرسمية الشرعية».
وتؤكّد مصادر «القوات» لـ«الجمهورية» أنّ «كلّ ما هو خارج هذين الإطارين يكون تشريعاً لأمر واقع ولغياب الدولة في لبنان، فتشريعُ وجود سلاحين وجيشين ليس استراتيجية دفاعية، بل إنه تشريعٌ لأمر واقع يبقي حالة اللاحرب واللاسلم وحالة اللاإستقرار قائمتين في لبنان».
أولويات عون
الإعتراضات والتفسيرات المتعددة لكلام عون، فضلاً عن الاتصالات غير المُعلنة، إستدعت رداً من مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية، الذي أوضح أنّ «ما قاله الرئيس حول موضوع الاستراتيجية الدفاعية كان توصيفاً للواقع الذي استجدّ بعد عشرة سنين على طرح هذا الموضوع خلال جلسات مؤتمر الحوار الوطني، خصوصاً التطورات العسكرية التي شهدها الجوار اللبناني خلال الأعوام الماضية والتي تفرض مقاربة جديدة لموضوع الاستراتيجية الدفاعية تأخذ في الاعتبار هذه التطورات، وبعد دخول دول كبرى وتنظيمات إرهابية في الحروب التي شهدتها دول عدة مجاورة للبنان، ما أحدث تغييرات في الأهداف والاستراتيجيات لا بدَّ مِن أخذها في الاعتبار». وأكّد أنّ عون «ملتزمٌ المواقف التي سبق أن أعلنها من موضوع الاستراتيجية الدفاعية وضرورة البحث فيها في مناخ توافقي».
وأكّدت مصادر مطّلعة على مواقف عون لـ»الجمهورية» أنّ «الرئيس لم يقصد أنّه لن يطرحَ استراتيجية دفاعية، بل قال إنّ هذا الموضوع يتطلّب إعادة تقييم. وما زالت الاستراتيجية الدفاعية مادة مطروحة وسيُعاد تحديد مفهومها ليتناسب مع الواقعين الراهن والمستقبلي، وليس كما كان الوضع في العامين 2008 أو 2010».
وعن تأثير كلام عون على العقوبات، ترى المصادر أنّ «موضوع الاستراتيجية الدفاعية غيرُ مرتبط بالعقوبات المعروف اتّجاهها»، معتبرةً أنّ «كلام الرئيس واضح جداً وصريح وكل التفسيرات لا تقارب الحقيقة».
أمّا عن موعد طرح عون هذه الاستراتيجية أو دعوته الى حوار حولها، فتقول المصادر إنّ «هناك أولويات بالنسبة إلى الرئيس أهمها الموضوع الاقتصادي الضاغط من «سيدر» إلى موازنة 2020 وغيرها من الاستحقاقات المتسرّعة، إضافةً إلى النقاط الواردة في الورقة الصادرة عن الإجتماع المالي – الإقتصادي الأخير في بعبدا».
وهل يتمكّن عون من طرح استراتيجية دفاعية أو إجراء حوار وطني حولها قبل انقضاء عهده؟ تجيب المصادر: «أمام الرئيس أولويّات إقتصادية ومالية وتطوير هيكلية الإدارة وموضوع الفساد والرشاوى… وهناك تركيز على هذه الأولويات في الوقت الراهن من دون إغفال أيّ قضايا أخرى تقتضي مصلحة البلد التطرق إليها».