لم يكن «حزب الله» في حاجة الى مشاركة الجيش اللبناني في معاركه العرسالية وهو الذي خاض معاركه داخل النواحي السورية بقواه الذاتية يظللها مشهد إيران المتعدد الهويات. لكن الحزب كان يحتاج إلى اعتراف هذا الجيش، الأداة الشرعية العسكرية للدولة اللبنانية، بأن لبنان يعاني من أخطار إرهابيين يهددون سكينة الوطن وأمنه واستقراره. وليس مهماً بعد ذلك شكل القوة المدافعة عن هذا الوطن، طالما أن الحزب يحتكر هذا الشكل منذ تشكّله في الثمانينات.
تخضع بيروت من دون حرج لمعادلة «حزب الله». لم يعد الحزب «مقاومة» ضد محتل، بل بات «قوة لبنان الحقيقية ضد أي خطر يهدد البلد». بكلمة أخرى، تسلّم بيروت بصيغة تعايش بين جيش تُعدُّه وتسلّحه وتستدعي الدعم الأميركي له وتنهمك في الإنفاق والاتفاق على تشكيلاته ومناقشة حصته من «السلسلة»، وبين «مقاومة» تجاريها وتخضع لأجندتها وتوليها شؤون الدفاع عن البلد. فـ «جهاد» الحزب هو أصل في راهن الجمهورية، فيما يأتي أداء الجيش فرعاً يناور وفق إيقاعات «المقاومة» ومزاجها.
وقد لا يكون مصادفة، وهي ليست كذلك، أن تتزامن المعركة العرسالية مع أول إطلالة للنظام السياسي اللبناني الراهن على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. نجح «حزب الله» في فرض نفسه على طاولة اللقاء الذي جمع سيّد البيت الأبيض برئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. فحين ينشط الكونغرس لفرض عقوبات جديدة على الحزب، تشي زيارة الحريري ووفده إلى واشنطن بأن لبنان أتى «وسيطاً» في نزاع لا شأن له فيه بين الولايات المتحدة وفيلق الولي الفقيه في إيران.
تدرك واشنطن ويدرك «حزب الله» أن المعركة ضد الإرهاب تحتمل سقوط محرّمات في علاقات الدول مع الجماعات المسلحة. غضّت الولايات المتحدة الطرف عن مشاركة الحشد الشعبي في العراق في الحرب ضد الإرهاب وهي تبارك جهود جماعات عربية سورية وأخرى سورية كردية في جنوب سورية وشمالها في هذا المضمار، فلماذا لا ينسحب أمر ذلك على جهد «حزب الله» ضد هذا الإرهاب في القلمون وعرسال؟
ولئن انتهج التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة واشنطن مسالك تكتيكية موقتة تفرضها الحرب ضد تنظيم «داعش»، فإن النظام السياسي اللبناني يحوّل ما هو مفترض انه موقت في علاقة الدولة بـ «المقاومة» إلى أصل في قواعد الجمهورية.
يتواطأ الآذاريون وفق التصنيفات التي فجرها اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 في ورشة واحدة لإضفاء شرعية قانونية وموضوعية وسياسية على ورشة «حزب الله» كما على وِرَشِه اللاحقة. بات الموقف اللبناني المتداول ينحصر بين التبرير والتأييد والصمت والتحفظ الخجول. وحتى البيان الذي صدر عن كتلة «تيار المستقبل» النيابية جاء مرتبكاً في صياغاته يواري حرجاً بين الماضي السيادي وحاضر يستسلم لشروط الحكم وأمره الواقع.
تُغرق زعامات الطوائف رؤوسها عميقاً في رمال المحاصصة والتشكيلات وبواخر انتاج الكهرباء وتمويل سلسلة الرتب والرواتب. ويستعد أحزاب البلد وسياسيوه بهمّة عالية لخوض الانتخابات التشريعية العام المقبل. ينحصر همّ النخب السياسية اللبنانية في ما هو إجرائي محلي، فيما يرصّ الحزب صفوفه ويرسم خرائطه ويبني أجنداته وفق مشهد إقليمي كبير. وفيما سيجني الحزب حصاده من فلاحة تجري تغيّر الاصطفافات وتبدّل سلم الأولويات الإقليمية الدولية من اليمن إلى ليبيا مروراً بالعراق وسورية ومنطقة الخليج، فإن النظام السياسي اللبناني يبدو منهمكاً في توفير الأرضية الجديدة لأي تموضع جديد يوفّره صدى الميادين لـ «حزب الله».
لا يساير الحزب شركاءه اللبنانيين، بل يفرض عليهم رؤاه ويذكرهم عبر أبواقه أن المعترضين على أدائه ليسوا سوى خونة يجوز بحقهم عقاب الخونة، ذلك أن «الإمرة للمقاومة». ويسود الطبقة السياسية المشاركة في حكومة العهد الأولى صمت خبيث باسم الدفاع عن صيغة ذلك العهد وحكومته. ويدرك ساسة البلد قدرة «حزب الله» على قلب الطاولة وشطب تلك الحكومة وحجب رئاستها عن أسماء من دون أخرى. ولا شك في أن المراجع الأميركية التي استمعت إلى الحريري والوفد المرافق في واشنطن استنتجت معادلات المهادنة وتدوير الزوايا والهرب مما هو ثابت والاستغراق في ما هو متحرك، وبالتالي ربما استنتجت أيضاً أن نظام بيروت بات رخواً متهالكاً مخترقاً لا يندرج في حساب الأرباح والخسائز ضمن المساحات الصديقة لواشنطن.
ومع ذلك فإن للسياسة نزوعاً نحو التحوّل يفوق خضوعها لعلم الجماد. ويبدو «انتصار» الحزب العرسالي مقلقاً للحزب، مخصّباً بخوف من تلك التفاهمات الكبرى التي تبسط مناطق النفوذ في سورية. ويظهر ضيق الحزب من خصومه المفترضين وكأنه يتحرى معركة أخرى تبسط بالسلاح في لبنان ما يمكن ألا تجيزه خرائط العواصم الكبرى في بقية المنطقة. لا يملك «حزب الله» منطقاً آخر غير منطق السلاح يلوّح به ضد إسرائيل وضد «الإرهابيين» وضد الخونة في لبنان، ولا يجيد في هذا العالم إلا بيع هذا السلاح. فحين يفرض المشرّعون الأميركيون عقوباتهم وتستشرف الأغراض تدخلات دولية إقليمية جديدة داخل سورية المفترض أنها ميدان إيراني بامتياز، فإن «حزب الله» يستدعي تفاهماً معه متّكئاً على مسلّمات لا بد أن أصحاب القرار في واشنطن قد أدركوها: «فائض قوة» يهدد أمن إسرائيل، فيما يُخضع النظام السياسي اللبناني برمته.