طهران تغازل واشنطن وتهدد تل أبيب وتستدرج عروضاً انطلاقاً من لبنان
نقلت وسائل الإعلام أمس عن مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء مرتضى قرباني قوله في حوار مع موقع «ميزان» الإيراني إنه «في حال ارتكبت إسرائيل أصغر خطأ تجاه إيران، سنسوي تل أبيب بالتراب انطلاقًا من لبنان»، ما شكّل مادة إضافية للنقاش المستعر هذه الأيام.
إذن في ذروة الغرق اللبناني بأزمات سياسية، اقتصادية، نقدية، وغذائية غير مسبوقة جعلته دولة شبه منهارة ومفتوحة على كافة الاحتمالات السلبية، وعشية اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان في باريس لمناقشة تطورات الأزمة القائمة، وسط مؤشرات غير مشجعة لتدخل مؤثر بفعل عجز الطبقة الحاكمة عن تنفيذ وعودها المكررة للأسرة الدولية في مسألتي الإصلاحات ومكافحة الفساد، وأيضاً بفعل انخراط أطراف داخلية، وتحديداً «حزب الله» منذ سنوات في أزمات المنطقة خلافاً لسياسة النأي بالنفس التي يكرر لبنان التزامه بها. وفي توقيت مريب، يفتقدُ الحكمة و»مراعاة الظروف»، يأتي كلام المسؤول الايراني ليعيد خلط الأوراق ويطرح أسئلة جوهرية حول مسارات الأمور.. ومآلاتها.
في الواقع هو ليس الدخول الاول للحرس الثوري على الشأن السياسي اللبناني، وأغلب الظن لن يكون كذلك، فمن نافل القول أن طهران تعتبر لبنان، من وجهة نظرها، ساحة تابعة لسيادتها الامبراطورية، ومساحة لإظهار مدى نفوذها الإقليمي وتالياً ترى في «حزب الله» درّة تاج هذا النفوذ. ولها في بلاد الأزر أدوات ومصالح وحسابات، ليست عسكرية فحسب، من يتذكر كلام قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني معلقاً على نتائج الانتخابات النيابية في أيار 2018 حيث قال ان «حزب الله» ولأول مرة فاز بـ 74 مقعداً، لافتاً إلى أنه «بهذه النتيجة يكون (الحزب) تحوّل من حزب مقاومة إلى حكومة مقاومة».
أكثر من ذلك، بعيد انطلاق الانتفاضة الشعبية في لبنان، رسم مرشد الثورة الايرانية علي خامنئي خطاً أحمر أمام الشعب المنتفض في لبنان والعراق على فساد السلطة، بالقول إنها «أعمال شغب تسببت بها أميركا والكيان الصهيوني ودول غربية بأموال دول رجعية»، ودعوته لأن تتحقق مطالبهم «ضمن الأطر والهيكليات القانونية حصراً»!!
ومن نافل القول أيضاً أن ما صدر عن اللواء قرباني اعتداء صارخ على السيادة الوطنية، فلبنان ما عاد يحتمل، حقيقة ومجازاً، أن يكون صندوق بريد لاستخدامات ايران في حوارها مع أميركا أو الغرب، أو منصّة لتصفية حساباتها مع أي طرف أو جهة، ولا يغير من هذه الحقيقة الصمتُ المريب من قبل أركان السلطة، وعدم اعتراضهم على تكرار المواقف الايرانية المنتقصة من السيادة اللبنانية.
ماذا في كلام الجنرال الايراني؟
يمكن فهم كلام الجنرال قرباني على أنه دخول إيراني متجدد على الأزمة القائمة، خصوصاً في شقها الدولي، من باب استدراج عروض للمشاركة بحلها، إما بالجلوس مع المجموعة الدولية الساعية لبحث الأزمة، أو من خلال تقديم دفعات تسهيل في الساحة اللبنانية (عدم مشاركة حزب الله في الحكومة مثلاً) مقابل أثمان تقبضها طهران في ساحات أخرى كالعراق أو غيره، وذلك في إطار صفقة أكبر وأشمل تسعى لها الجمهورية الاسلامية مع أميركا بعد تأثرها بشكل سلبي بالعقوبات عليها.
ما يدعّم هذا الاتجاه، مؤشرات «الغزل» الاميركي- الايراني المتبادل الذي تجلى خلال وبعد عملية تبادل سجناء بين الطرفين، وإعلان طهران استعدادها للمزيد!
لكن كلّ ذلك لا ينبغي أن يغطي واقع أن شظايا العقوبات الأميركية والدولية على إيران أصابت لبنان من خلال استهداف حزب الله، وأثّرت بشكل كبير ومنهك في القطاع المصرفي والملاءة المالية والعلاقات التجارية، وبدأت تؤثر في قطاعات حيوية أخرى تتصل بمصالح الناس اليومية كتحويلات المغتربين والدراسة في جامعات العالم وعمليات الاستيراد وغيرها.
في البعد المحلي، يمكن قراءة تهديدات الجنرال الايراني عطفاً على سعي لبنان الحثيث، وغير الموفق حتى الآن، لوضع حدّ لأزماته الداخلية من خلال فكّ الارتباط مع أزمات المنطقة ومحاورها من سوريا إلى اليمن مروراً بغزة والعراق والبحرين، وهنا جاء التهديد الايراني ليعيد الأمور إلى المربع الأكثر تعقيداً.
لكن أخطر ما في كلام المسؤول الايراني أنه يبرر أو يستدرج أو يروّج لضربة اسرائيلية موجعة للبنان على طريقة الهروب إلى الأمام وخلط الأوراق على الجميع، من خلال اختلاق أسباب هكذا ضربة ومبرراتها وظروفها، وهي أمر في حال حصوله، والحال أن البلد منهار وشبه مفلس، سيقضي على أي إمكانية لاستشراف إمكانية للوقوف مجدداً، ليس لأن تل أبيب تكرر التهديد بالرد العنيف جداّ لأي استهداف يطالها انطلاقاً من لبنان والذي قد يطال البنى التحتية والمرافق والقطاعات والمناطق فهي عدو ولا ينتظر منه غير ذلك، بل لأن علاقات لبنان بمحطيه العربي وأصدقائه حول العالم ليست بأحسن أحوالها لأسباب كثيرة ومعروفة. أيّ حرب إن حصلت سترتب تداعيات كارثية، من دون اغفال أن لا أحد، لا أحد، من المجتمعين العربي والدولي مستعد لانقاذ لبنان وإعادة إعماره في حال نشوب حرب مشابهة لحرب العام 2006.. هنا يجب القول بأن «حشر» لبنان في تصريحات الجنرال الايراني الهمايونية مكابرة لا فائدة منها، وتدخّل مؤذ وضار بالشؤون اللبنانية، وخارج عن كل أطر الديبلوماسية والعلاقات بين الدول.
أيضاً وأيضاً، لا يخفى أن تدخلات الجنرال قرباني بالشأن اللبناني أخطر من تصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بعيد اندلاع انتفاضة 17 تشرين، حين قال «يجب علينا مساعدة الشعب اللبناني لتحقيق تطلعاته». حينها اعتبر كلام المسؤول الأميركي بمثابة تسعير للأزمة الداخلية كمن يصبّ الزيت على النار، واستدعى رداً من رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي طمأنه إلى أن الشعب اللبناني «مكفي وموفي»، أي أنه ليس بحاجة للمساعدة من أجل الخروج من أزماته، ما يعني، بشكل أوضح، أن المواقف الأميركية في هذه اللحظة كمن يصبّ الزيت على النار، وقد تؤذي أكثر مما تفيد.
وطالما الشيء بالشيء يذكر، يفترض الظنُّ الحسن بـ «حزب الله»رداً على كلام المسؤول الإيراني، لإداركه بعمق الأزمة الحاصلة، ولمعرفته بأنه الطرف الأقدر على تقديم تسهيلات لإخراج المأزق الحكومي من عنق زجاجة الاشتراطات المتبادلة.. وفوق كل ذلك، لأنه يمتلك قدرة التأثير على الأغلبية النيابية في حال استجدّ ما يقتضي ذلك.. والرهان على ذلك قائم، فهل يتولى الردّ كافياً اللبنانيين مؤونة ذلك.