IMLebanon

هل للبنان موقف رسمي (مُوحّد) من وجود إسرائيل؟

 

هناك شيء ما يجري في الخفاء، وفي العلن. هناك تحضير لسلام بين لبنان وبين دولة العدوّ الإسرائيلي، وبرعاية وتمويل غربي. لـ«الصفقة الكبرى»، عناصر مختلفة ومتوجّبة في داخل كل دولة عربيّة. واحتضان الحكومة الأميركيّة — الشكلي – للجيش اللبناني ومدّه بسلاح (لا يردّ عدوان إسرائيل) للاستعمال الداخلي وفرض الهيبة (الداخليّة فقط) له أهداف خبيثة مبيّتة. البطريرك الراعي الذي لم يجد ضرورة لتفقّد الجاليات المارونيّة في «انطاكيا وسائر المشرق» وجد ضرورةً ملحّة لزيارة الجالية المارونيّة في فلسطين، مع أن ليس له من مواقف قويّة ضد الاضطهاد الصهيوني للمسيحيّين (ولغيرهم من العرب) في فلسطين.

 

لا، وعاد الراعي بمواقف تطبيعيّة تعدّد حجّة الاهتمام بالجالية المارونيّة لتصل إلى موضوع السلام مع العدوّ (وتبادل مع مضيفه مارسيل غانم العواطف في هذا الصدد). والباحث عن دور، فارس سعيد، تنطّح هو الاخر لطرح مبادرة لتبادل الزيارات عبر الحدود مع فلسطين المحتلّة، بحجّة الحجّ الديني (وأيّده في ذلك، نديم الجميّل، ذو التاريخ العريق في الاهتمام بحقوق الشعب الفلسطيني). والأزهر اقترح قبل أيّام زيارة المسلمين للقدس المحتلّة. ما حكاية أن ألدّ أعداء فلسطين في العالم العربي هم الذين يصرّون على زيارة فلسطين تحت الاحتلال؟

والحديث عن موقف لبنان الرسمي من وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ليس مستجدّاً. هناك في الثقافة اللبنانيّة نزعات تطبيع ومصالحة ومهادنة مع العدوّ. وبروز حركة المقاطعة في لبنان، كما في الدول العربيّة —وهي أضعف أنواع التعاطف العربي مع فلسطين لأن الموقف العربي يجب أن يكون في دعم المقاومة، أو في ربط المقاطعة بالمقاومة وليس فصلهما كما يجري في دول الغرب— حفِّز لانطلاق حركة معارضة للمقاطعة. أو أن حركة معارضة المقاطعة كانت تقف بالمرصاد من أجل تمرير التطبيع في لبنان. أي أنّ لبنان، خلافاً للدول العربيّة، بات يحتضن حركة مناهضة للمقاومة بكل أشكالها، ويحتضن أيضاً حركة مناهضة للمقاطعة (السلميّة). والذين انضووا في حركة معارضة المقاومة المسلّحة فعلوا ذلك بحجّة صوابيّة وفعاليّة النضال السلمي ضد العدوّ —أو هكذا قالوا لنا. لكن المقاطعة هي مظهر من مظاهر النضال السلمي ضد العدوّ، لكن حتى هذه المعارضة السلميّة تُقابل باحتجاج قوي على وسائل التواصل الاجتماعي والصحف في لبنان من قبل الإعلاميّين والإعلاميّات والنخب الثقافيّة بصورة عامّة (وبات هؤلاء يحرصون — لسبب مجهول — على التعبير عن معارضتهم للمقاطعة باللغة الانكليزيّة، ربّما كي تصل الرسالة إلى مَن يعنيهم الأمر، كما أن بعضهم يلجأ إلى الخدعة الصهيونيّة التي تساوي بين معارضة الصهيونيّة وإسرائيل وبين معاداة اليهوديّة. بعض إعلاميّي وإعلاميّات لبنان زعم أن مقاطعة ستيفن سبيلبرغ، الذي تبرّع من ماله الخاص لدعم العدوان الإسرائيلي على لبنان، هو بسبب دينه وليس بسبب مواقفه وتمويله للعدوان الإسرائيلي. وهناك علامة فارقة في ثقافة تحتاج فيها لإقناع مَن لا يقتنع أن تمويل جيش العدوّ الذي شنّ عليكَ عدواناً غاشماً يشكّل سبباً وجيهاً للمقاطعة. وهذه نادرة في أي بلد في العام. كما لو أن أميركا تسمح بعرض فيلم لمخرج موّل تنظيم «القاعدة» بعد ١١ أيلول. أميركا هذه منعت ترجمة مذكّرات أبو داوود لأنه مضمونه يتناقض مع الصهيونيّة السائدة).

وقد زاد موقف جبران باسيل من إسرائيل الجدال حول العدوّ احتداماً. قال في مقابلة مع «الميادين»: «نحنا بالنسبة لالنا ما عنّا قضيّة ايديولوجيّة ونحنا مش رافضين تكون موجودة إسرائيل. بحقا انه يكون عندا أمان». وباسيل لم يكترث لتوضيح كلامه غير أنه نوّه بمواقفه واعتبر أن نقد كلامه هو مشبوه بحدّ ذاته. لكن كلام باسيل —وهو أكبر من الزلّة وأخطر من السقطة – يجب أن يفتح النقاش في موقف لبنان الرسمي نحو العدوّ، وفي تناقض مواقف لبنان الرسميّة. كيف يوفّق باسيل بين كلامه في الجامعة العربيّة وبين كلامه العفوي في حديث تلفزيوني، وكيف يوفّق مضمون حديثه مع كلام ميشال عون أمام البعثات الديبلوماسيّة في العام الماضي، وفيه تنديد بالتطهير العرقي للصهيونيّة؟ وهل أن حماسة تبنّي وزير الثقافة لفيلم لمخرج (كوني) تطبيعي هو موقف غير رسمي؟ وقد صدق باسيل القول في أن ليس لتيّاره من موقف أيديولوجي ضد العدوّ، وهذا يسري على معظم القوى السياسيّة في لبنان.

لقد صدر حديثاً كتابٌ يصلح أن يكون مقرّراً في كل المدارس اللبنانيّة. الكتاب (وهو مجلّد ضخم بحجم ٨٧١ صفحة) بعنوان «المتاهة اللبنانيّة: سياسة الحركة الصهيونيّة ودولة إسرائيل تجاه لبنان (١٩١٨-١٩٥٨)» لرؤوفين أرليخ، وكان قد صدر بالعبريّة عن دار معراخوت ووزارة الحرب الصهيونيّة، وقام محمد بدير بالتعريب (1). والكتاب، مقارنة بكل ما صدر بالعربيّة أو الانكليزيّة (أو العبريّة) عن العلاقات الصهيونيّة – اللبنانيّة عبر التاريخ، هو أقرب إلى الموسوعة بسبب إحاطته بتفاصيل العلاقات بناء على المراجع والوثائق والدراسات المنشورة وغير المنشورة. لكن كان يمكن أن تستفيد الترجمة من تحرير وتصحيح وتنقيح وتعليق من المُترجم أو مُحرّر الكتاب (يفترض أروخين مثلاً أن عضو لجنة مفاوضات الهدنة، محمد علي حمادة هو شيعي بسبب اسم عائلته فيما كان درزيّاً، ص. ٣٨٠. والتقرير الإسرائيلي عن شخصيّة ريمون إدة بعيد عن حقيقة الرجل إذ انه صوّره بأنه شخص غارق في الملذّات والمادّة، ص. ٥٨٨. كما أن سعد الدين شاتيلا هو سنّي وليس شيعيّاً، كما ورد، ص. ٦٠).

 

إن المعلومات الواردة في مجلّد «المتاهة اللبنانيّة» يحدّد الأوجه المختلفة من العلاقات اللبنانيّة الرسميّة وغير الرسميّة مع العدوّ. وغياب الموقف اللبناني الرسمي المُوحَّد — حتى الساعة — من العدوّ هو الذي يسمح بالمبادرات الخاصّة في الاتصال والتعامل والتخابر والتحالف مع العدوّ، ومن دون النظر في العقوبات. كيف يمكن مثلاً للبطريرك الماروني (الحالي) أن يخرق موقفاً لبنانيّاً رسميّاً (مفترضاً) بعدم التواصل المباشر والزيارة مع العدوّ من دون أي ردّة فعل من الحكومة اللبنانيّة، خصوصاً أن للبطريركيّة المارونيّة بالذات تاريخ مشين من العلاقات السريّة مع الحركة الصهيونيّة ثم مع دولة العدوّ. وغياب الموقف الرسمي يسمح لدولة العدوّ باستفراد قادة الأحزاب والزعماء ورجال الدين من أجل تحقيق مكاسب واختراق الدولة والمجتمع في لبنان.

يتضح أن نوايا العدوّ نحو لبنان كانت تتضمّن أطماعاً في أرضه وفي ثرواته. وكان للعدوّ مشاريع واضحة ومحدّدة للتوسّع شمالاً وحتى للاستيطان فيه. لكن تطوّرات الوضع اللبناني وتنامي حركات المقاومة، الفلسطينيّة ثم اللبنانيّة، أجبر العدوّ على تغيير مخطّطاته والرضوخ لواقع رفض الجنوب اللبناني للمشاريع الصهيونيّة (بالرغم من احتضانها من قبل فرقاء لبنانيّين). وأطماع العدوّ في لبنان كانت مترافقة مع توسّع احتلال العدوّ للأراضي العربيّة. وهناك فريق لبناني (ودائماً في السياسة اللبنانيّة هناك فريق متعاون ومتحالف سرّاً أو علناً مع العدوّ الإسرائيلي) كان دوماً يقلّل من خطورة أطماع العدوّ من أجل تسويغ عدوان العدوّ ووضعه فقط تحت خانة «الدفاع عن النفس».

أما عن تواصل العدوّ مع زعماء وصحافيّين في لبنان فيمكن القول إن العدوّ لم يتوقّف منذ الثلاثينيّات عن إنشاء علاقات تحالف أو تواصل مع شخصيّات لبنانيّة نافذة من أجل كسب ودّها أو من أجل تمرير مخطّطات إسرائيليّة، أو من أجل إجهاض العمل العربي المُشترك. لكن من الضروري تخليص موضوع العلاقة اللبنانيّة السريّة (والعلنيّة) من التعميمات والافتراضات الطائفيّة الجائرة: ليس هناك من طوائف وطنيّة وأخرى خائنة في هذا الصدد. لا يمكن القول إن هناك طائفة مقاومة أو أن هناك طائفة عميلة في لبنان. كل الطوائف، أو في داخلها، تداولت وتداورت في التحالف مع العدوّ عبر زعامات أساسيّة أو هامشيّة في تاريخها. وفي المقلب الآخر، لم تكن الطائفة — كل الطائفة — تتمثّل بالتحالف مع العدوّ الذي عقده زعماؤها، حتى لو كانوا محبوبين في داخل الطائفة (مثل بيار الجميّل أو ولديْه). كان هناك دوماً متمرّدين في داخل الطوائف مِن الذين عارضوا العلاقة مع العدوّ. ويعترف العدوّ بتقاريره أن هناك في الشعب اللبناني — أو السكّان اللبنانيّين القريبين من الحدود مع فلسطين — قدّموا (في انتفاضة ١٩٣٦-١٩٣٩ مثلاً) «مساعدة لوجستيّة لمجموعات فلسطينيّة مسلّحة وسهّلوا لها العبور إلى أرض» فلسطين (ص.٦٦). وهناك حالات انضمّ فيها لبنانيّون إلى صفوف الثوّار في فلسطين. وتسلّل في آذار ١٩٣٨ «مجموعات لبنانيّة مؤلّفة من السنّة والشيعة، إلى أرض إسرائيل (بالحرف، كما ورد في الكتاب) من أجل مساعدة عصابات فلسطينيّة». وبالرغم من التصوير النمطي الشائع (والظالم) الذي يعمّم على الدروز في تطبيعهم مع العدوّ، فإن تاريخ الصراع شهد تسلّلاً من دروز لبنان وسوريا إلى فلسطين لمساعدة الثوّار في الثلاثينيّات. والرائد اللبناني، شكيب وهّاب، قاد فوج المتطوّعين الدروز في صفوف «جيش الإنقاذ» في حرب فلسطين في آذار من عام ١٩٤٨.

أما بيع الأراضي — أو المساهمة في إتمام عمليّة البيع ــــ فقد قام به لبنانيّون من عائلات مسيحيّة ومسلمة (سنيّة وشيعيّة على حدّ سواء مع الإشارة إلى أن مجمل ما ابتاعه اليهود لم يصل حتى إلى ٧٪ من أرض فلسطين): أحمد الأسعد (أراضي المنارة، وأراضٍ قرب المالكيّة وقدَس (2)) علي عبدالله (أراضٍ قرب بليدا). كما أن سليم سلام (بالاشتراك مع ابنه صائب) تفاوض على مدى ٢٠ عاماً لبيع أراضي الحولة للاستيطان اليهودي (والكتاب يحوي صورة عن صك بيع أراضي الحولة من قبل عائلة سلام وبتوقيع موشي شاريت وصائب سلام، ص. ٦٥٩). وبيع الأراضي من قبل عائلات سرسق وتيّان وتويني بات معروفاً أيضاً.

ومثلما أن عائلات من طوائف مختلفة تورّطت في بيع أراض للاستيطان اليهودي في فلسطين، فإن علاقات الحركة الصهيونيّة مع شخصيّات لبنانيّة تنوّعت عبر الطوائف المختلفة. صحيح أن الحركة الصهيونيّة عوّلت مبكّراً على الطائفة المارونيّة لكن ذلك كان بسبب النظرة الطائفيّة (والاستشراقيّة) للصهاينة. وهناك عامل آخر وطّد من دعائم العلاقة مع قيادات مارونيّة ومع الحركة الصهيونيّة. فقد حظيت الحركة الصهيونيّة بشخصيّة ومواقف البطريرك عريضة الذي بقي في سدّة البطريركيّة من عام ١٩٣٣ إلى عام ١٩٥٥، وهو ساعد في نشر فكر التطبيع والتحالف مع العدوّ بالرغم من لجوئه إلى التقيّة حول طبيعة العلاقة، ولم يكن بحماسة المطران اغناطيوس مبارك في المجاهرة بالصهيونيّة. والبطريرك عريضة توّج تحالفه مع العدوّ بتوقيع اتفاقيّة مع الحركة الصهيونيّة في عام ١٩٤٦. وكان قريب البطريرك، توفيق لطف الله عوّاد (تبوّأ مواقع وزاريّة ونيابيّة في الثلاثينيات) الواسطة الدائمة مع الحركة الصهيونيّة (3). والعلاقة مع إميل إدّه وابنه بيار كانت ثابتة هي أيضاً لكن تناقص دور إميل إده بعد الاستقلال خيّب آمال الصهاينة (لكن نفوذ بيار الذي كان يلتقي الصهاينة في باريس تعاظم). ولم تنحصر العلاقات مع إدة فقط، إذ كان للصهاينة علاقات مع قريبين من بشارة الخوري، الذي رفض أن يتواصل مباشرة معهم في سنوات حكمه (لعلّه كان الوحيد في ذلك بين سنوات ١٩٤٣ و١٩٨٨). لكن الخوري اجتمع مع إلياهو ساسون في عام ١٩٤١، وكان واسطة اللقاء الأسقف عبدالله خوري الذي فاجأ الصهاينة باقتراحه تغيير الواقع الديموغرافي في جنوب لبنان. وبشارة الخوري نفسه قال في اللقاء لساسون «يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل. ثمة ضرورة لإخلائه من سكّانه الشيعة الحاليّين الذين يشكّلون خطراً دائماً على البلديْن» (ص. ٥٢). واقترح الخوري تمويل الصهاينة لتوطين الموارنة في جنوب لبنان لإحلال السلام في العلاقة بين الكيانيْن.

 

 

لا يمكن القول إن هناك طائفة مقاومة أو أن

هناك طائفة عميلة

وأقام الصهاينة علاقات مع أقطاب من الزعماء السنّة مثل رياض الصلح وسامي الصلح (وابنه عبد الرحمن الذي عمل مديراً لوزارة الخارجيّة اللبنانيّة، وأميناً عاماً مساعداً للجامعة العربيّة) وتقي الدين الصلح بالإضافة إلى رؤساء الحكومات في مرحلة ما قبل الاستقال، خالد شهاب وخير الدين الأحدب. كما أن أحمد الأسعد حافظ على علاقة مع الصهاينة بالرغم من تفجير بيته في الطيبة في حرب فلسطين. وتواصل الصهاينة (في النصف الأوّل من الثلاثينيّات) مع نظيرة جنبلاط ومع أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركيّة، سعيد حمادة، لكن العلاقة المباشرة الوطيدة كانت بين ساسون والشيخ حسين حمادة في بعقلين.

والعلاقات ترواحت وتفاوتت واختلفت في طبيعتها بين زعيم أو صحافي أو رجل دين أو آخر، لكن العدوّ نجح في اختراق الدولة والمجتمع في لبنان من مواقع مختلفة. وهناك تبريرات لهذه العلاقات، كما أن هناك في لبنان مَن يبرّر حتى علاقات التعامل مع العدوّ ويجدها ضرورة وطنيّة. وحسان حلّاق الذي رصد موقف لبنان (أو اللبنانات) من القضيّة الفلسطينيّة سوّغ علاقة رياض الصلح مع العدوّ وخفّف من وطأتها بذريعة نقل موقف العرب إلى الصهاينة وحتى «خدمة القضيّة الفلسطينيّة» (4). لكن ما الذي يدعو زعماء يجاهرون بنصرة القضيّة الفلسطينيّة إلى عقد لقاءات وعقد تحالفات مع الصهاينة؟ الأسباب اختلفت باختلاف الحسابات الطائفيّة والسياسيّة لكل رجل معني. والعدوّ كان يقتّر في تمويل حلفائه وأزلامه (حتى الأمير عبدالله كان يستجدي مئات من الاسترلينيّات). والعلاقة بين الصلح وبين العدوّ لم تكن ماليّة فقط إذ كان لرياض الصلح، كما للعديد من العرب الذين أقاموا علاقات مع الصهاينة نظرة لاساميّة في النظر إلى اليهود، على أنهم يتحكّمون بكل شيء في الشرق والغرب، وأن نفوذهم من شأنه أن يعزّز من مواقعهم السياسيّة. فالصلح مثلاً طلب اهتمام الصحافة الأميركيّة به، كما أنه ظنّ أن باستطاعته كسب تنازلات من العدوّ كي يوظّفها في مصلحته السياسيّة. لكن كان هناك حسابات انفصاليّة أخرى عند بعض الساسة اللبنانيّين من أطراف اليمين الطائفي، مثل إميل إدة وحزب الكتائب وغيرهما. كان هناك مشروع لثورة انفصاليّة في لبنان تكون متحالفة مع الكيان الصهيوني بعد إنشائه، مع إحداث تغييرات ديموغرافيّة قسريّة (في جبل عامل أو غيره). لكن العدوّ كان يعلم أن حلفاءه يبالغون في تقدير قوّتهم.

وفساد الطبقة السياسيّة وانتهاج أساليب ملتوية في تقوية المواقع السياسيّة والانتخابيّة كان يسيل لعاب السياسيّين الذين لم يجدوا غضاضة — كما اليوم — في الاستعانة بقوى خارجيّة للتمويل والتسليح حتى من العدوّ. وطلب التمويل والتسليح، أو الترويج في إعلام الغرب، عنوان رئيس في تملّق الساسة في لبنان للصهاينة. وكان البعض يريد من العلاقة من الصهيونيّة أن تقرّبه من الغرب، أو أنه تقرّب من الصهاينة بأوامر من الغرب. وهناك مَن كان يرى — ولا يزال — أن الاتصال بالصهاينة والإسرائيليّين يضفي عليه نوعاً من الحضارة والرقيّ.

وقصة حرب فلسطين باتت معروفة كيف أن الحكومة اللبنانيّة وقيادة الجيش اللبناني (بشخص فؤاد شهاب) تملّصت من الارتباطات العربيّة والالتزامات المتوجّبة عليها في حرب فلسطين واكتفت باحتلال المالكيّة من دون التوغّل في الجليل كما كانت الخطّة المعدّة. لكن الجيش اللبناني لم يكن وحيداً في معركة المالكيّة، كما يسود في المنهج الدراسي اللبناني، إذ أن قوات سوريّة وأخرى من «جيش الإنقاذ» ساهمت في المعركة. والفعل الأساسي في معركة المالكيّة كان «فوج اليرموك الثاني» التابع لـ«جيش الإنقاذ». هذا لا ينفي بطولة القوّة التابعة للنقيب محمد زغيب، والتي كانت تابعة على الأرجح لـ«جيش الإنقاذ» أيضاً. واحتلال المالكيّة كان ضارّاً لأنه أعطى الجيش اللبناني الذريعة للظهور بمظهر المُشارك في معركة فلسطين فيما كان مصمِّماً على عدم المشاركة في خطة الجامعة العربيّة والتي وافقت عليها الحكومة اللبنانيّة وقيادة الجيش اللبناني. فؤاد شهاب كان صارماً في أن جيشه هو «للدفاع»، لكن ليس للدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل، كما رأينا في تاريخ لبنان المعاصر. لكن الأنكى كان في مواجهة — أو مهادنة الدولة والجيش اللبناني لعمليّة «حيرام» (تشرين الأوّل) التي توغّلت فيها قوّات العدوّ في الأراضي اللبنانيّة والتي امتنع فيها الجيش عن المساهمة في الدفاع عن لبنان، ورفض تقديم المساعدة لقوّات «جيش الإنقاذ»، وتجاهل ثلاثة طلبات لمساندته بنيران المدفعيّة. حرص الجيش اللبناني على التفرّج على عدوان إسرائيل وانسحب من المالكيّة (قتل العدوّ في ٦٠ ساعة من القتال مئات من العرب، وارتكب عدداً من المجازر).

ويزيد التأريخ الصهيوني الرسمي لاتفاقيات الهدنة من الشكوك والريبة الذي يعتمل في صدور عدد من اللبنانيّين بسبب اللقاءات الدوريّة في الناقورة بين ضبّاط من الجيش اللبناني وضبّاط من جيش العدوّ (أوضحت جريدة «النهار» في ردّ على تغريدتي ضد الاجتماعات المباشرة بين الطرفيْن أن وفداً من قوّات «اليونيفيل» يجلس على نفس الطاولة (على شكل «إل» بالانكليزيّة) مع الفريقيْن، كأن ذلك يدحض فكرة اللقاءات المباشرة في غرفة واحدة على طاولة واحدة، وليس في غرفتيْن منفصلتيْن كما كان يُشاع خطأً في الإعلام اللبناني. وتاريخ هذه اللقاءات يظهر أن الاجتماعات كانت تخرج عن الإطار الرسمي وكان الفريقان اللبناني والإسرائيلي يتبادلان الرسائل السياسيّة (الخارجة عن نطاق اتفاق الهدنة) حتى على مستوى قادة البلديْن).

(يتبع)