IMLebanon

هل للبنان موقف رسمي (مُوحّد) من وجود إسرائيل؟ [٢]

 

مراجعة تاريخ الاختراق الإسرائيلي للبنان تكشف أن التنسيق بين جزء من اللوبي اللبناني في أميركا وبين اللوبي الصهيوني بدأ باكراً

 

لا يزال الحديث في هذا الجزء عن المجلّد الضخم، «المتاهة اللبنانيّة: سياسة الحركة الصهيونيّة ودولة إسرائيل تجاه لبنان (١٩١٨-١٩٥٨)» لرؤوفين أليخ، والصادر بالعبريّة عن دار معراخوت ووزارة الحرب الإسرائيليّة، لما يحتويه من إضاءات على التاريخ الخفي للبنان المعاصر، وعن العلاقات السريّة الوطيدة بين الكيان الصهيوني وبين بعض ساسة لبنان وإعلاميّيه (ومن كل الطوائف، إيّانا أن ننسى).

 

ومسار مفاوضات الهدنة بين الدولتيْن شكّل قناة اتصال مزدوجة بين العدوّ وبين أعلى مستوى من السلطة السياسيّة في لبنان: كانت المفاوضات تجري من ضمن القناة الرسميّة وبحضور مندوبين عن الأمم المتحدة (أو «اليونيفيل» في ما بعد)، كما كانت مفاوضات أخرى تجري سرّاً بعيداً عن أعين رقباء الأمم المتحدة بين ممثّلي الدولتيْن.

وكالعادة في تعامل (بعض) اللبنانيّين مع المحتلّين الصهاينة، فقد أصرّ أعضاء الوفد اللبناني في مفاوضات الهدنة في عام ١٩٤٩على تكريم الإسرائيليّين (في الجانب غير الرسمي من الاجتماعات) عبر دعوتهم إلى مأدبة طعام وتقديم الشراب والمقبّلات (ص. ٣٧٤). ما سرّ إصرار بعض اللبنانيّين على القيام بواجب الضيافة نحو المحتلّ؟ أكثر من ذلك، فإن عضويْ الوفد اللبناني، المقدّم توفيق سالم والديبلوماسي محمد علي حمادة بحثا في ما هو أبعد من الهدنة، أي التطبيع بين الدولتيْن، لكن الوفد اللبناني طلب عدم إدراج هذا الموضوع في المحضر الرسمي من المفاوضات (1). والعلاقات المبكّرة تلك (والتي أفضت إلى لعبة كرة قدم وديّة بين الجيش اللبناني وبين جيش العدوّ الإسرائيلي في ٧ حزيران من عام ١٩٤٩) (2) بنت الأسس التي تقدّم لبنان عليها نحو توقيع اتفاقيّة ١٧ أيّار في ١٩٨٣. وكان أعضاء الوفد اللبناني يقومون بزيارات سريّة إلى مستوطنات إسرائيليّة لكن الخبر تسرّب عن زيارة لهم في ١٢ تشرين الأوّل من عام ١٩٥٠ وأدّى ذلك إلى احتجاجات في لبنان (ص. ٤٨٩). وكان الطرفان، اللبناني والإسرائيلي، يتفقان – أو يتآمران – ضد دول عربيّة (وكانت دولة العدوّ تحرص على إبلاغ الحكومة الأميركيّة بضرورة التزام السريّة في تلك الاتفاقيّات خشية أن تضرّ بسمعة لبنان العربيّة). والطرف اللبناني هو الذي حرص عبر كل هذه السنوات والعقود على الحفاظ على سريّة محاضر الاجتماعات (الرسميّة منها وغير الرسميّة). ويستطيع الباحث الإسرائيلي أن يرجع إلى محاضر الاجتماعات بين الطرفيْن فيما لا تزال الحكومة اللبنانيّة تمنع نشر أي من تلك المحاضر، حتى تلك التي تعود إلى حقبة الخمسينيات. وكان فؤاد شهاب (أبو العقيدة المُؤسِّسة للجيش اللبناني، والتي تبلورت في مباراة كرة القدم الوديّة بين جيشيْ البلديْن) يتلقّى الرسائل من موشي دايان من خلال ضبّاط لجنة الهدنة لتنسيق محاربة فدائيّي فلسطين (ص. ٤٩٩). وقد توصّل الطرفان في أوائل الخمسينيات إلى اتفاقيّة من أجل تسهيل هجرة يهود لبنان إلى فلسطين المحتلّة، وتجاوب الطرف اللبناني مع المشروع وإن أبدى خشيته من اكتشاف الحكومة السوريّة الأمر. لكن لبنان تحفّظ على استعمال حدود لبنان من أجل تسهيل هجرة يهود من دول عربيّة. وترفيع المقدّم توفيق سالم إلى منصب رئيس أركان الجيش اللبناني سهّل عمليّة نقل الرسائل بين الحكومتيْن لما أقامه سالم من وشائج بين الطرفيْن في حقبة عمله في لجان الهدنة.

وكان للجان الهدنة غرض طائفي في التطبيع أيضاً. إذ إن حميد فرنجيّة، الذي يقول التاريخ اللبناني الرسمي عنه إنه كان عروبيّاً وإنه كان من مؤسّسي الجامعة العربيّة (البريطانيّة المنشأ)، طمأن مبعوثاً إسرائيليّاً (زفي دوريل) أنه (كوزير خارجيّة) أصرَّ على إرسال ضابط مسلمٍ إلى مفاوضات الهدنة «من أجل التقارب مع إسرائيل» (ص. ٣٨٠). وفي لقاء آخر مع دوريل صرّح فرنجيّة بمكنونات طائفيّة (على طريقة إلياس المرّ في أحاديث «ويكليكس») إذ قال: «من دون الدخول في مسألة حب أو كراهية اليهود، المسيحيّون اللبنانيّون معنيّون بأن يبقوا (أي اليهود) في لبنان. عددهم ليس كبيراً، لكن حتى عددهم الصغير له أهميّة في التوازن العددي بين المسلمين وغير المسلمين. اليهود ينجزون عملاً اقتصاديّاً مفيداً وقد حجزوا مكانهم في الاقتصاد اللبناني. لا توجد شكاوى منهم، وهروبهم من البلاد سوف يضرّ بالاقتصاد. لأجل ذلك، اتخذت الحكومة اللبنانيّة منذ بداية الحرب إجراءات لحماية اليهود. الشرطة حرست الحيّ اليهودي بشكل خاص، ولم تتردّد في إطلاق النار على جمهور المتاولة الذي حاول الانقضاض على الحي اليهودي. صحيح أن الموظفّين اليهود في القطاع العام سُرِّحوا من عملهم، لكن ليس من وظيفتهم، لبضعة أشهر… لكنهم حصلوا على راتبهم طوال الوقت، والآن عادوا إلى وظائفهم… كان هناك قرار من الجامعة العربيّة باعتقال اليهود المشبوهين الذين يشكّلون خطراً على الأمن العسكري. لبنان كان مضطرّاً لتطبيق القرار واحتجز نحو ثلاثين يهوديّاً أجنبيّاً، بينهم إسرائيليّون، لكن لم يتم اعتقال أي يهودي لبناني. أما الذين اعتُقلوا، فقد أُطلِق سراحهم بعد بضعة أسابيع، ومعسكر الاعتقال الذي كانوا فيه في بعلبك أغلق ولم يعد قائماً» (ص. ٥١٥). وشخصيّة الإسرائيلي زفي دوريل، الذي كان يلتقي بفرنجيّة، وغيره من الساسة تحتاج إلى تسليط الأضواء عليها.

 

 

أصرّ أعضاء الوفد اللبناني في مفاوضات الهدنة على تكريم الإسرائيليّين

 

اسم زفي دوريل هو عَبرَنَة لاسمه الحقيقي، زفي فايتسمن. هو من مواليد أوروبا وهاجر إلى فلسطين المحتلّة في عام ١٩٣٣ وأنشأ أعمالاً بما فيها مصنع «نور» في الدامور في لبنان. وفي ظروف غير معروفة، حصل دوريل على الجنسيّة اللبنانيّة مما سهّل عليه المجيء إلى لبنان قبل وبعد إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يبدو أن الساسة في لبنان كانوا يجدون غضاضة في اللقاء معه. والكتاب الذي بين أيدينا يتحدّث عن «إنجازه لمهمّات» لمصلحة وزارة الخارجيّة (الإسرائيليّة) مستغلاً معرفته بلبنان. وقد التقى مع كمال جنبلاط في عام ١٩٥٣(ص. ٥٦٦). ومع أن الكتاب يقول إن حميد فرنجيّة لم يكن مستعدّاً «لإقامة تواصل مباشر مع مسؤولي وزارة الخارجيّة»، فإن دوريل كان له منصب رسمي في وزارة الخارجيّة وتولّى عملاً ديبلوماسيّاً (وقد يكون موساديّاً لخلوّ الأرشيف العبري من إشارات كثيرة عنه) في إيران في الخمسينيات، حيث استعان بصفة مزوّرة في عمله (3).

وكمال جنبلاط، الذي التقى بدوريل كما أسلفنا، أبدى اهتماماً بإقامة علاقات مع إسرائيل في بداية الخمسينيات. يذكر المرجع أن رؤفين شيلواح (مدير لجنة رؤساء الأجهزة الأمنيّة في حينه) أبلغ إلياهو ساسون، السفير الإسرائيلي في روما، «بوصول رسالة من كمال جنبلاط عن طريق رجل الارتباط التابع للاستخبارات العسكريّة في لبنان». وجاء في الرسالة أن كمال جنبلاط وأكرم الحوراني يعربان عن اهتمامهما بـ«لقاء ممثّل إسرائيلي في أوروبا» (ص. ٦٠٧). ولم تهتم الحكومة الإسرائيليّة بالطلب خصوصاً وأن الطلب تضمّن تحمّل نفقات سفر جنبلاط وحوراني. ولا تذكر المراجع المنشورة إذا كان اللقاء هذا قد حصل أم لا. ولم تكن هذه الإشارة الوحيدة إلى تواصل بين جنبلاط وحكومة العدوّ. فقد كتب بن غوريون في مذكّرة (من أوراقه) في كانون الأوّل من عام ١٩٥٣ أن موفداً من الحزب الاشتراكي الهندي قال إن جنبلاط طلب منه الاستفسار عن موقف إسرائيل تجاه عدد من الموضوعات (وضمّن أسئلة محدّدة). وقد أجاب بن غورين عن تلك الأسئلة. وفي لقاء جنبلاط مع دوريل قال الأوّل إنه «سيسعد جدّاً بالتعرّف على الجوهر الحقيقي للاشتراكيّة الإسرائيليّة» (ص. ٦٠٨). وقال جنبلاط، من جملة ما قاله، إنه سيسافر في الصيف إلى الولايات المتحدة «وسيكون مستعدّاً للاجتماع بإسرائيليّين». وقد نقل موشيه شاريت في مذكّراته عن استعداد جنبلاط للقاء إسرائيليّين (ص. ٦٠٩).

أما سامي الصلح فقد كان وراء إرسال الكولونيل فؤاد لحّود (أصبح نائباً في مجلس ١٩٧٢ وترأسَ لجنة الدفاع النيابيّة) وابنه، عبد الرحمن الصلح (عمل مديراً عاماً لوزارة الخارجيّة اللبنانيّة في ما بعد بالإضافة إلى تولّيه منصب الأمين العام المساعد للجامعة العربيّة) لإنشاء علاقة مع إسرائيل في عام ١٩٥٥ بالنيابة عن العهد الشمعوني. وقد أقام سامي الصلح علاقة مع ممثّل «الموساد» في باريس «وناقش معه خطة «لإسقاط الحكم (الشهابي) الجديد وطلب مساعدة ماليّة أجل ذلك» (ص. ٦١١).

أما تقي الدين الصلح (رئيس وزراء للبنان قبل الحرب) فقد التقى مع إلياهو ساسون في جنيف في ١٩٥٦. والسفير اللبناني في باريس، أحمد الداعوق، أقام هو الآخر علاقة مع العدوّ بدءاً من عام ١٩٤٨، بالإضافة إلى مدير عام وزارة الخارجيّة اللبنانيّة، فؤاد عمّون.

وكانت حكومة العدوّ تنظر بعين الريبة إلى كميل شمعون بسبب دفاعه في بعض المحافل العربيّة والدوليّة عن القضيّة الفلسطينيّة في الأربعينيات. لكن رياض الصلح لم يخطئ عندما ردّ على نقدٍ لشمعون له (بسبب مهادنته في موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي) بالقول في جلسة في المجلس النيابي اللبناني في ٣ آب ١٩٤٨: «صباحاً عند المطران (الصهيوني الصفيق) مبارك ومساءً عند مفتي فلسطين» (4)، أي أنه كان يلعب على الحبليْن. بدأ التواصل بين شمعون والحكومة الاسرائيليّة في شباط من ١٩٥٥، إذ حضر نجيب صفير (5) إلى روما للقاء إلياهو ساسون (المختصّ في شؤون المشرق العربي). وأخبر صفير ساسون أن شمعون مستعد «للتوصّل إلى سلام منفرد مع إسرائيل» إذا حصل منها على ضمانات تتعلّق بالحدود والدفاع عن لبنان بوجه سوريا وتقديم مساعدة اقتصاديّة (ص. ٥٤١). لكن اللقاء التمهيدي (بين إدارة شمعون) جمع بين فؤاد لحّود وعبد الرحمن الصلح في الممثليّة الاسرائيليّة في إسطنبول. اللقاء تبعه لقاء رسمي في روما حضره رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة وممثّل عن الخارجيّة الاسرائيليّة. الصلح ولحّود أكّدا أن لبنان سيكون الدولة الثانية التي ستصنع السلام مع إسرائيل وطلبا دعماً بالسلاح والمال. لكن العلاقة لم تتعمّق إلا في أزمة ١٩٥٨ عندما بادرت إسرائيل (كما بادرت إدارة شمعون) إلى فتح قنوات اتصال مباشرة. والشكوك القديمة حول تدخّل عسكري إسرائيلي مباشر في الحرب الأهليّة في عام ١٩٥٨ باتت مؤكّدة في الوثائق الاسرائيليّة. وقدّم العدوّ معلومات ومساعدة «عسكريّة وسياسيّة» إلى نظام شمعون (ص. ٥٤٥). وقّدم العدوّ سلاحاً وذخيرةً تم تسليمها عبر المطلّة لمؤيّدي شمعون في بلدة القليعة. وقد لعب شخصان الدور الرئيس في هذه العلاقة العسكريّة: الكولونيل فؤاد لحّود (وكان أخوه سليم صلة وصل أخرى مع الإسرائيليّين) الذي كان قائداً لمنطقة جنوب لبنان، وكلوفيس فرنسيس من مؤيّدي شمعون في بلدة القليعة. وتضمّنت الشحنات بنادق وذخيرة وقاذفات ورشاشات. وكان طلب فؤاد لحّود أكثر طموحاً، إذ أراد مستوى أكبر من «التدريب والسلاح والمال»، لكن التلبية كانت أصغر مما أراد الحلفاء اللبنانيّون. وتم توزيع السلاح على كل مؤيّدي شمعون في الحرب (ابن عم أحمد الأسعد وأنصار عادل عسيران ومعارضو كمال جنبلاط وعلى أفراد الحزب السوري القومي الاجتماعي(6) الذي كان في صف شمعون في تلك الحقبة). وقد نسّق نظام الشاه أمر مساعدة اسرائيليّة إضافيّة لشمعون عبر تشكيل عمليّة إسرائيليّة ــ إيرانيّة استخباراتيّة ــ عسكريّة مشتركة لمساندة نظام شمعون، وتم نقل أطنان من العتاد العسكري، غير المساعدة التي منحها أعضاء «حلف بغداد» للنظام اللبناني. كما أن جيش العدوّ عطّل عمليّات مساندة عربيّة عبر سوريا إلى الثوّار في لبنان. وأكّد بن غوريون على التزام إسرائيل بمنع إسقاط نظام الحكم الشمعوني.

 

 

حصل زفي دوريل على الجنسيّة اللبنانيّة، ما سهّل عليه المجيء إلى لبنان

وأسّس شارل مالك قناة اتصال إسرائيليّة أخرى في واشنطن حيث اجتمع في حرم السفارة اللبنانيّة في واشنطن بالسفير الإسرائيلي في العاصمة الأميركيّة (ص. ٥٦١).

ومراجعة تاريخ الاختراق الإسرائيلي للبنان (دولة وصحافةً وكنيسةً) يكشف أن التنسيق بين اللوبي اللبناني في أميركا (أو جزء منه) وبين اللوبي الصهيوني بدأ باكراً. ما أن توصّل البطريرك عريضة (حليف الصهاينة الوثيق) إلى الاتفاقيّة الرسميّة الموقّعة في عام ١٩٤٦ بين البطريركيّة وبين الحركة الصهيونيّة حتّى أرسل الصحافي الياس حرفوش لدعم «نضال الموارنة في لبنان ضدّ نوايا الدول المسلمة في المنطقة» (ص. ٤٣). والتقى حرفوش بممثّل الوكالة اليهوديّة (الصهيونيّة) في واشنطن وتم الاتفاق على تنظيم وتنسيق عمل «الجمعيّة اللبنانيّة في الولايات المتحدة» ومكتب الولاية اليهوديّة في واشنطن وتم على أثر ذلك تمويل جريدة «الهدى» لصاحبِها نعّوم مكرزل. واعترض مكرزل في ما بعد في عام ١٩٤٥ على مرافعات شمعون في الأمم المتحدة لدعم وجهة النظر العربيّة. والاهتمام الصهيوني بالإعلام العربي لم ينحصر بالموارنة والمسيحيّين فقط (مثل ميشال شيحا والياس ربابي والياس حرفوش). والتقى ممثّل إسرائيلي بفؤاد الحاج علي (المراسل الشيعي لمجلّة «كل شيء» البيروتيّة) وكان يعدّ أطروحة دكتوراه في باريس. وطلبت الحكومة الاسرائيليّة من الحاج علي مسحاً «حول الطائفة الشيعيّة في لبنان» لكن التواصل بين الطرفيْن انقطع بعد أن عُيَّن الحاج علي في منصب رسمي لبناني في باريس. كما حرص الصهاينة على اللقاء مع مثقّفين، منهم مؤسّس الجامعة اللبنانيّة ورئيسها الأوّل (بالرغم من عدم نليه لشهادة الدكتوراه)، فؤاد أفرام البستاني الذي شرح لمحاوره الصهيوني أن «الانتصار اليهودي في أرض إسرائيل من شأنه أن يضمن الطابع المسيحي للبنان ويعزّز الأقليّات في الشرق» (ص. ٣٠١). وأوصى ساسون بتنمية العلاقة مع «بروفسوريْن اثنيْن إضافيّيْن» في جامعة القدّيس يوسف.

لكن العلاقة الأوثق كانت طبعاً مع حزب الكتائب ومع جريدته الرسميّة، «العمل». وكان الياس ربابي أوّل صلة وصل مع العدوّ الإسرائيلي (منذ ما قبل إنشاء الكيان) وبعلم من بيار الجميّل فقط من قيادة الحزب. وكان ربابي يبالغ —حسب المراجع الإسرائيليّة – في تقدير حجم الحزب وإمكانيّاته طمعاً بدعم مالي وعسكري مبكِّر من إسرائيل. وكانت الكتائب (كما الانعزاليّون الآخرون) يعدون بإسقاط النظام اللبناني الاستقلالي وإنشاء كيان حليف لإسرائيل. وكان الدعم الأوّل بقيمة ٢٠٠٠ دولار —أقلّ بكثير مما كان يتوقّعه ربابي. لكن ربابي لم يستجب لطلب الإسرائيليّين لإرسال «ضبّاط» كتائبيّين إلى دولة الاحتلال لتلقّي التدريب. وكانت المساعدات للكتائب تحت عنوانيْن: دعم الحزب في حملاته الانتخابيّة وتمويل جريدة «العمل». وكانت الحكومة الإسرائيليّة ترسل مقالات لنشرها في الجريدة باسم إلياس ربابي. وللأمانة، فإن الجريدة حسب الرصد الإسرائيلي نشرت «كل المقالات التي أرسلتها إسرائيل» و«بحرفيّتها» (ص. ٥٧٣). وقال ربابي إنه سيقبل بتوجيهات إسرائيل حول «كل ما يُكتب في الجريدة». وتم تعيين رجل إسرائيلي «لتغذية» الجريدة بالمواد ومقابل مبلغ أوّلي قدره ٣٠٠٠ دولار.

وهناك شخصيّات كان لها سمعة عروبيّة تواصلت أيضاً مع العدوّ. لم يكن البطريرك المعوشي مثل سلفه مناصراً قويّاً للصهيونيّة، وطالباً المعونات الماليّة منها مثل البطريرك عريضة. لكنه لم يمانع في لقاء إسرائيليّين. هو التقى بزفي دوريل (المذكور أعلاه) كما التقى في عام ١٩٦٢ بديبلوماسيّين إسرائيليّين في مدينة كليفلند في ولاية أوهايو، أثناء زيارة للبطريرك إلى الولايات المتحدة.

إن خلاصة ما سبق أنه لم يكن للبنان سياسة خارجيّة موحّدة على مرّ تاريخه المعاصر نحو الكيان الإسرائيلي. كان لكل طائفة سياسة خارجيّة خاصّة بها، وكان أحياناً لكل زعيم طائفي أو رئيس كنيسة سياسة خارجيّة. وكان الخطاب الرسمي اللبناني متناقضاً كليّاً مع التواصل الذي لم يتوقّف بين الحكومات اللبنانيّة والعدوّ. كان الخطاب المعادي مجرّد تقيّة مارستها الزعامات اللبنانيّة لإخفاء علاقات التحالف. من الضروري بناء على تاريخ مفاوضات الهدنة بين لبنان وإسرائيل أن تتوقّف هذه المفاوضات خصوصاً أن العدوّ لم يلتزم يوماً بها، وخصوصاً أن لبنان فهمها خطأ على أن لبنان ليس في حالة حرب مع إسرائيل. إن لبنان لم يكن يوماً في حالة حرب مع إسرائيل لكن إسرائيل كانت ولا تزال في حالة عداء وحرب مستمرّة، وهي خرقت -ولا تزال- تخرق اتفاقيّة الهدنة التي يتمسّك لبنان بها تمسّك الأطفال بلعبهم. وإذا كان لبنان حريصاً على استمرار مفاوضات الناقورة فلماذا تكون مباشرة؟ لماذا لا تكون غير مباشرة؟ وما جدواها، غير تحقيق العدوّ في الاعتراف وفي تنفيذ أوامره؟ وللبنان أرض محتلّة، وهذا مخالف لاتفاقيّة الهدنة. وإذا كان لبنان مصرّاً على هذه المفاوضات فلماذا لا ينشر محاضرها بالكامل؟ ولماذا يتستّر على محاضر ماضية حتى من حقبة الخمسينيات.

يتحضّر شيء ما في لبنان هذه الأيّام. «الصفقة الكبرى» تتطلّ برأسها البشع من خلال حملة شنيعة وقويّة من معاداة المقاومة والمقاطعة. إن ثقافة التطبيع باتت منتشرة في الوسط الثقافي اللبناني وبمسميّات مختلفة. والذين وافقوا على حظر ومنع ومعاقبة حزب الله وحماس بسبب مقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي باتوا اليوم مجاهرين بمعارضتهم لمعاقبة العدوّ، ومقاطعة مخرج تبرّع بميلون دولار لإسرائيل مكافأةً لها على عدوانها على لبنان. إن لبنان في خضمّ ساحة الصراع بين التحالف الأميركي – الإسرائيلي – السعودي – الإماراتي والتحالف الإيراني. وقد بدت تباشير هذا الصراع من خلال ضخ محموم لمفاهيم قيم وسياسات وثقافة التطبيع، وذلك من خلال أطراف متعدّدة. كان إعلام التيّار الحرّ شديد الحماسة ضد مقاطعة سبيلبرغ، مما يثبت أن جبران باسيل على حق، أن ليس لتيّاره من أيديولوجيّة عداء ضد إسرائيل. وحدها الأيديولوجيّة تحصّن لبنان ضد الصهيونيّة وضد التطبيع معها. لكن هذا يقتضي استبدال حالة الضبابيّة والغموض حول سياسة لبنان نحو إسرائيل باتفاق لبناني جامع حول عقيدة مناهضة الصهيونيّة ورفض وجود الكيان الصهيوني. لكن هذا مستحيل. لإسرائيل — منذ إنشاء الكيان— حلفاء ووكلاء ورقباء بينكم. هؤلاء هم الذين يقرّرون، بأمر من العدوّ، قرارَ الحرب والسلم، لا المقاومة التي تقوم بواجب الدفاع عن النفس والوطن معاً.