الفشل لا أب له، يقول المثل الإنجليزي. لا أحد يقبل أن يتمناه. لذلك، يُكتب التاريخ دائماً من نهاياته. التاريخ لا يقول إن ريتشارد نيكسون كان أكثر رؤساء أميركا تضلّعاً في السياسة الخارجية، بل إنه أرغم على الاستقالة مُهاناً بسبب كذبه. التاريخ لا يقول إن هتلر حمل الازدهار إلى ألمانيا، بل إنه انتحر في ملجأ بعد وصول هزيمته إلى برلين. الناس لا تقول – أو لا تعرف – أن الجنرال أوغستو بينوشيه حمل الازدهار إلى التشيلي، بل إنه مات مطارداً من العدالة. وما بالك بنابليون الذي ربح الحروب والمعارك والإمبراطوريات، ومن ثم مات منفياً في آخر الأرض.
مسكين من يخسر. الهزيمة ممحاة قاسية ومتوحشة. لم يعثر شاه إيران على مستشفى يستقبله كمريض. خلف نيكيتا خروشوف، يوسف ستالين، أقوى رجل في الاتحاد السوفياتي. وكان يهز الأرض من تحت أميركا وأوروبا. ولما عزله الرفاق في ليلة غير مقمرة، لم يعد أحد يعرف عنوان منزله. فقط عندما توفي سمح للعائلة أن تعرف عنوان المدفن. مثله مثل ستالين أصبح ذكره ممنوعاً، ولو مرفقاً بلقب «السابق» أو «الراحل».
يبدو التاريخ شيئاً بطيئاً وطويلاً. سنوات فعقود وأحياناً، قرون. لكن عندما يحين وقت الاختصار، الويل لذوي النهايات السيئة. مثل ملايين البشر بدأت قراءة حياة الديكتاتور الإيطالي، موسوليني، من نهايتها. رجل يقتحم إيطاليا في الحرب، فيخسرها، فيحاول الفرار مثل جندي جبان، فيكشف الشيوعيون أمره، فيعتقلونه، فيحاكمونه، فيعدمونه ويعلقونه من ساقيه.
بالنسبة إليَّ، وإلى ملايين البشر، كان موسوليني هو الفاشية والغباء والتوحش والاستعمار الغبي. كل ما قرأته عنه يقع تحت هذه العناوين. لكن كل ما قرأته كُتب بعد الحرب. كُتب من الفصل الأخير. ليس من أجل موسوليني بل من أجلي، قررت أن أقرأ كبار الكتّاب قبل الحرب. وقد عرضت لكم منذ مدة ما كتبه المؤرخ الألماني الكبير إميل لودفيغ، عن مقابلته له.
ثمة ما هو أهم. في كتابه «عالم الأمس» (دار المدى) يروي كاتب النمسا ستيفان زفايغ، أن سيدة إيطالية جاءته إلى سالزبورغ، تناشده التوقيع على عريضة يرسلها أدباء أوروبا إلى موسوليني، طالبين خفض سنوات سجن زوجها المتهم بالتآمر عليه. قال لها زفايغ إن الاسترحام لن ينفع، بل سوف يؤدي إلى نتائج معاكسة. انصرفت الزوجة حزينة.
أما هو فقام إلى مكتبه ووضع رسالة قصيرة إلى موسوليني، ثم ذهب إلى مكتب البريد وأرسلها بالبريد العادي، وبعد أربعة أيام، اتصلت به المفوضية في فيينا. وقال له محدثها إن «الدوتشي» تلقى الرسالة. وهو لن يخفض سنوات السجن على الرجل، بل سوف يُصْدِر عنه عفواً خاصاً صباح ذلك النهار.
آسفون، حضرة الدوتشي. لا أحد سوف يُقنع التاريخ بإعادة النظر في أسلوبه. أو في أحكامه.