عندما انطلقت حركة “طلعت ريحتكم” غداة انفجار قضية تراكم النفايات في الشوارع، فإن قلّة قليلة استرعت انتباهها هذه الظاهرة الطالعة، وقلّة قليلة أيضاً عقدت رهاناً على قيامها بدور فاعل ومؤثّر، إذ أن تجارب الأعوام الماضية أظهرت أن حركات الاعتراض والرفض في الشارع لن تلبث إلا قليلاً وسرعان ما تخبو لتختفي كأن شيئاً لم يكن.
لكن رياح الأمور جرت خلال الأيام الأخيرة، وتحديداً منذ السبت الماضي، بخلاف معظم الرهانات والتوقعات، فالحركة التي لم تستقطب في ظهورها الأول الا أعداداً محدودة سرعان ما كبرت ونمت لتمسي رقماً صعباً يملأ ساحة رياض الصلح ويفيض باتجاه الشوارع المحيطة، والأكثر من ذلك أن تحدث دوياً وضجيجاً أخاف أركان السلطة فاضطروا في اليومين التاليين الى الظهور بكثافة أمام وسائل الاعلام إما ليبرروا تقصيرهم وقصورهم أو ليبكوا ويتباكوا أو في أحسن الأحوال ليوصفوا كما المعترضين أنفسهم حال الاهتراء والفساد والتداعي في جسد السلطة والدولة.
مشهد يحدث ربما للمرة الأولى في لبنان منذ حقبة طويلة. وقد تمادى خوف حراس هيكل السلطة من مفاعيل هذا الحراك وتداعياته المحتملة الى درجة أنهم سارعوا الى وضع خطة مواجهة ممنهجة بغية اطفاء أنوار هذا الحراك والنيل منه والحد من تمدده وتفاقمه وتوطئة لاستيعابه وإعادة الأمور الى سيرتها الأولى من خلال الخطوات الآتية:
– استخدام مفرط للعنف في مواجهة المشاركين في الحراك على نحو غير مسبوق الا في حالات حدثت عشية اندلاع الحرب الأهلية، أي إبان صعود الحراك الاجتماعي بقيادة اليسار الى درجة أن البعض استعاد صورة ما حصل لعمال معمل غندور في الشياح ومزارعي التبغ في النبطية حيث سقت يومها دماء الفقراء إسفلت الشوارع.
– الاستعانة بما صار يعرف بـ”الزعران” الملثمين الذين ترك المجال أمامهم لساعات عدة يعيثون في الوسط التجاري فساداً قبل أن يتدخل الجيش ويضبط الموقف. ولم يعد مصدر هؤلاء وانتماؤهم مجهولاً اطلاقاً لا لدى الأجهزة المعنية ولا لدى المشاركين في الحراك، كما لم يعد خافياً أنهم أُنزلوا الى ساحة الحراك في لحظة معينة لتشويهه وحرفه عن مساره الطبيعي.
– وفي الوقت عينه لجأت شريحة أخرى من النظام الى استخدام لعبة الشحن المذهبي للنيل من الحراك، اذ قطعت في ليلة واحدة وفي مناطق متباعدة الطرق تحت عنوان الدفاع عن الحكومة والدفاع عن السرايا وما تمثل من رمزية مذهبية، والهدف أيضاً تشويه الحراك ووأده في مهده ومحاصرته بشبهات شتى وسد المنافذ أمامه.
بطبيعة الحال لم يكن هذا الحراك الاجتماعي الشبابي الأول من نوعه، لكن السؤال الذي يطرح بإلحاح هو: لماذا أبدى أركان السلطة هذا الحجم من الهلع، ولماذا بادروا الى كل هذه الخطوات التي تستبطن الاستجابة لمطالب المتحركين، واستطراداً لماذا تخطى هؤلاء الأركان خلافاتهم وتناقضاتهم وحشدوا قواهم مجتمعين وأطلقوا نفير المواجهة؟
لدى الأوساط ذات الصلة جملة إجابات في مقدمها:
– يملك أركان السلطة من المعلومات ما يكفي لإقناعهم بأن هذا الحراك ينظمه شبان من خارج الانتماء الحزبي والطائفي، تحركهم فقط قوة الاعتراض على واقع يئسوا منه، وانهم يختزنون رصيداً كبيراً من الحقد والكره للسلطة وأدائها.
– إن الحراك في ذاته أظهر عري السلطة وألقى الأضواء على مثالبها وعجزها، وأظهر أيضاً حجم الفساد والإفساد المستشري وبيّن كمية المحاصصة التي صارت سمة النظام.
بمعنى آخر، وجدت السلطة أن هذا الحراك يملك قابلية التمدد وجذب شرائح شبابية واسعة دخلت أخيراً في مرحلة اليأس من أداء السلطة ومن أداء القوى والأحزاب والسجال السياسي الذي بدا عقيماً ومملاً.
– لا ريب في أن السلطة لمست حجم تجرؤ المشاركين في الحراك على أركانها ورموزها وكمّ التحدي الذي يكنّونه لها ولهم.
– لم يعد خافياً أن “الانتفاضة العونية” وتضامن أفرقاء أساسيين معها زادت مأزق السلطة ولا سيما ثلاثيّها المعروف، وأسقطت معها نظرية إدارة الفراغ التي تكرّست في نظر البعض بعد تأليف حكومة “المصلحة الوطنية” برئاسة الرئيس تمام سلام.
– في الآونة الأخيرة شعر الثلاثي الحاكم الفعلي، أي حركة “أمل” و”تيار المستقبل” والحزب التقدمي الاشتراكي، بأنه بات يواجه تحدياً جدياً وأن عليه بذل المزيد من الجهود للقيام بدور حارس الهيكل وناطور الصيغة. ولم يعد سراً في نظر مراقبين أن الاجتماع السري ليل الأحد ما قبل الماضي في عين التينة هو دفعة أولى في سياق الجهد المطلوب من هذا الثلاثي على عجل بغية الاستعداد لتنظيم المواجهة وتطويق أي حراك يهدد المعادلات والتوازنات.
ماذا بعد؟
سؤال يطرح، والجواب أن لهذا الحراك حدوداً إذا ما قيس بالتجارب الماثلة السالفة، فنقاط ضعفه أنه غير منتم وأنه لم تتوافر له بعد قيادة وبرنامج حراك واضح، ولم يعد خافياً أن في أوساط الثلاثي الحاكم كلاماً فحواه أن هذا الحراك لن يكون أفعل وأقوى من حراك هيئة التنسيق النقابية والذي تم استيعابه بعد لأي، وبالتالي فالجهد مبذول على قدم وساق لكي يلاقي التحرك المستجد التحرك الاجتماعي السالف، خصوصاً أن التحرّك الحالي يستخدم أساليب تعود الى عقد السبعينات ويرفع شعارات مكرورة لم تجدِ نفعاً في السابق مثل اسقاط النظام واسقاط صيغة المحاصصة الطائفية التي انهكت البلاد وافسدت العباد.
وفي المقابل فإن المقيمين على قدر من التفاؤل يرون أن الحراك أعطى ثماراً أولية تتمثل في الآتي:
– بعث موجة من الرعب في نفوس أركان السلطة ولا سيما ثلاثيّها.
– رفع وتيرة التجرؤ على أركان السلطة وعلى أدائها.
– أظهر حجم الاعتراض الشبابي على واقع الحال القائم، وأظهر في المقابل أن الشريحة المعارضة باتت مستعدة للنزول الى الشارع والمرابطة فيه، ومستعدة أيضاً لتحدي كل اجراءات السلطة ومحاولات قمعها واستيعابها.
– أظهر في الوقت عينه مدى تخبّط أركان السلطة وعجزهم عن اجتراح الحلول.