حصر البعضُ تحرُّكَ بكركي الأخير ودعوتَها النواب الموارنة إلى الاجتماع في الصرح البطريركي بـ»كادر» الخوف المسيحي ـ الماروني والهاجس من خسارة الموقع والدور في لبنان. إلّا أنّ «الموارنة» لم يُدعَوا بغية جَمعهم وحلّ خلافاتهم أو للتكتل ومواجهة الطوائف الأخرى، بل دُعيوا انطلاقاً من الدور الماروني التاريخي في تأسيس لبنان والحفاظ عليه وعلى هويّته بكل مكوّناته ومناطقه وأجزائه. ولم يُقرَع جرسُ الكنيسة خوفاً من انكسار طائفي بل من دمار الوطن. ومن هذا المُنطلق، إضافةً إلى وقائع وتحذيرات غربية وصلت إلى البطريرك الماروني من دول مُهتمّة بلبنان تاريخياً، أتى «اللقاء الماروني» شكلاً وعناوين وطروحات ومتابعة.
كلمة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والبيان الختامي لـ«اللقاء الماروني»، الذي عُقد في بكركي في 16 كانون الثاني الجاري، شدّدا على سيادة لبنان واستقلاله والعيش المشترك والتمسك بالدستور و»اتفاق الطائف» ورفض تكريس أعراف جديدة والحرص على توازن السلطات… كذلك، ركّزا على علاقات لبنان الخارجية، ودعيا إلى تأليف الحكومة لإنهاء الفراغ ومواجهة التحديات الاقتصادية وأزمة النزوح وغيرها من العناوين.
وقد إنبثقت من «اللقاء» لجنةُ متابعة تضمّ النواب: ابراهيم كنعان، جورج عدوان، سامي الجميل، اسطفان الدويهي، فريد الخازن، هادي حبيش، ميشال معوض، إضافة الى المطران سمير مظلوم. وستعقد اللجنة اجتماعَها الأول اليوم في بكركي لمتابعة العناوين التي طُرحت في اللقاء الموسّع الأخير. فهل ستكتفي بالمناقشة وإصدار البيانات؟
توضح مصادر بكركي لـ»الجمهورية» أنّ «وجودَ لجنة متابعة هو حاجة ماسة لتتويج هذا اللقاء ومتابعة أعماله وتوصياته وأفكاره. فالاجتماع تضمّن كمّاً من الأفكار المُشترَكة التي تتطلّب البحث وتوحيد الرؤية حيالها، ولا يُمكن تحقيق هذا في اجتماع واحد، فكل عنوان يتطلب لجنة واجتماعات عدة لمتابعته ومناقشته وإجراء البحث الضروري فيه والاستماع إلى آراء خبراء ومتخصّصين».
وتشرح المصادر أنّ «اللجنة ستطرح العناوين بتتابع. أمّا في اجتماع اليوم فلن تطرح عناوين بل ستُحدّد الأولويات وسترسم خريطة طريق لعملها وتضع برنامجاً لها، ومن المُرجح عدم صدور أيّ بيان عن الاجتماع، لأنه حان وقت العمل لا إصدار البيانات».
وفي هذا الإطار، تعيد بكركي تحديدَ بوصلة اللقاء الماروني الذي حُضِّر له ليكون «فعلَ عَمل إنقاذياً لا مجرّدَ كلام تنظيري». فالبيان الذي صدر عن الاجتماع المُوسّع حدّد أطرَ مهمة أساسية وشدّد على مبادئ وثوابت وطنية لا مارونية حصراً، واليوم حان وقت العمل على تفعيل هذه العناوين وتنفيذها لا الاكتفاء بها، فليس الهدف من اللقاء مجرد حركة إعلامية فولوكلورية.
كذلك، إنّ هدف اجتماع اللجنة هو البحث العِلمي والعَملي الجدّي في نقاطٍ محدّدة، وستعقد اللجنة اجتماعات كلّما استدعت الحاجة، وحين تنهي مناقشة عناوين وموضوعات معينة سيعمل فريقُ عمل على هذه النقاط لتنفيذها، وحين ينتهي عملُ الفريق في المهمة المُحدّدة تجتمع اللجنة للاستحصال على النتائج وتوحيد الرؤية حولها.
من جهة ثانية ستُشكِّل اجتماعات اللجنة تحضيراً للقاء ماروني آخر في بكركي قد يكون مُوسّعاً على غرار اللقاء الأول، وذلك حسب الحاجة.
ولكن هل يُمكن أن يُوسَّع اللقاء ليشملَ شخصياتٍ مسيحية أخرى، وحتى من طوائف أخرى؟
تجيب مصادر بكركي مشدِّدة على أنّ «الاجتماع الماروني الأخير كان لمصلحة لبنان وليس الموارنة فقط». وإذ تؤكّد «أهمية التشاور، وأن لا شيءَ يمنع عقدَ لقاءٍ أوسع يضمّ أكبر شريحة من الناس ومن الموارنة والمسيحيين خصوصاً»، توضح «أننا دعونا نواباً إلى الاجتماع لأنهم في موقع القرار في السلطة، ولسنا في حاجة اليوم إلى التنظير، فالأمور لم تعد تتحمّل، وعلينا أن نتحدّث مع معنيين بالقرار ومع مسؤولين».
كذلك، لا تبحث بكركي اليوم عن مجالس إضافية، بل عن طرح المشكلات الوطنية وهموم المواطنين مع أصحاب القرار والموجودين في السلطة، لذلك يأتي النواب في أولوية الخيار لطرح هذه الموضوعات والمشكلات ومتابعتها معهم لأنهم موجودون في السلطة وهم أكثر مَن يمثل الشعب اللبناني الذي انتخبهم ويعكسون صوته وآراءَه».
أمّا دخول بكركي علناً وفي وضوح على خطّ حلّ الأزمات الوطنية، المصيرية منها أو السياسية الآنيّة، فيأتي استمراراً للدور الماروني ودور البطريركية المارونية الوطني، إضافةً إلى الاستشعار بخطرٍ يدهم لبنانَ الوطن والدولة.
زياراتُ الديبلوماسيين العرب والغربيين لبكركي ونقل التحذيرات الدولية الى الراعي، خصوصاً على صعيد ضرورة تأليف الحكومة، هي من الدوافع الى دعوة النواب الموارنة للاجتماع وللاتّفاق على بنود وطنية وتطبيقها، لمصلحة جميع اللبنانيين.
وكانت زيارةُ السفير الفرنسي برونو فوشيه للراعي الجمعة المنصرم بعد يومين على انعقاد «اللقاء الماروني» لافتةً، حيث هنّأ فوشيه البطريرك على «جهوده المبذولة، والتي يقودها من أجل تقريب وجهات النظر في عملية تشكيل الحكومة في أسرع وقت ممكن، والتي ننتظر تأليفها لأنّ هناك خريطة طريق موضوعة للبنان ونحن جاهزون لتنفيذها».
وفي حين يغيب حسُّ المسؤولية لدى «المسؤولين» اللبنانيين، تلتقي بكركي والدولةُ الفرنسية، اليوم، كما على مرّ التاريخ، على مصلحة لبنان. وعمّا يلمسه الراعي من الديبلوماسيين الذين يزورونه، تقول مصادر بكركي: «المجتمع الدولي يهمّه الإستقرارُ في لبنان ويهمّه تشكيلُ حكومة في أسرع وقت».
وترى أنّ «الموقف الفرنسي يعكس قلق المجتمع الدولي، وأنّ فرنسا الدولة القريبة جداً من لبنان يهمّها أن تعود الحياة الطبيعية إلى البلد وأن تعود الحركة السياسية وحركة المؤسسات الدستورية إلى العمل على نحوٍ طبيعي. كذلك، يدرك زوار بكركي الخطرَ المحيط بلبنان والتحدّيات التي يواجهها، فلبنان من دون وحدة وطنية حقيقية لا يُمكنه مواجهة التحدّيات، لذلك كان التنويه الفرنسي بكلام الراعي الذي حدّد البوصلة الوطنية في مرحلة ضياع، حيث تُطرح موضوعات وعناوين مختلفة».
فوشيه وغيره من الديبلوماسيين أقلقوا الراعي، وهذا القلق مشروع. وفي حين يتسابق المعنيون لتحصيل الحصة الأكبر، سبقهم الراعي إلى العمل ووضع النقاط على الحروف، وقال علناً ومباشرةً ما يُحكى في السر، وشدّد على الدستور وعلى «اتفاق الطائف» وكذلك على الوحدة الوطنية ومواجهة اللبنانيين التحدّياتِ مُجتمعين.
وتُعوّل بكركي على النواب «الموارنة» الذين تمون عليهم مرجعيّتُهم الدينية، ليؤدّوا واجباتهم، كلٌّ من موقعه وعبر تحالفاته الوطنية، فهل ينفع تنبيهُ الأبِ لأولادِه إلى خطر هدم البيت على جميع قاطنيه فيما هُم يتنازعون على غرفه وأثاثه؟!