أتت المادة 19 من الدستور اللبناني مقتضبة عند تحديدها صلاحيات المجلس الدستوري، إذا إنها أحالت إلى المشترع تحديد قواعد تنظيم المجلس وأصول العمل فيه وكيفية تشكيله ومراجعته.
ولهذا، كانت ممارسة المجلس الدستوري لصلاحياته مقيّدة بوجود قانون مسبق يحدّد أطر ممارسة هذه الصلاحية، وبالفعل نجد أن المجلس تقيّد بالشكليات إلى أقصى حدود ممكنة، فردّ الطعن بقانون الإيجارات شكلاً، بسبب نشره في الجريدة الرسمية قبل اكتسابه عنصر النفاذ، وتقيّد بمهلة الخمسة عشر يوماً للطعن بالقوانين بالرغم من أن الدستور لم يقيّده بمهلة. إن هذا المنهج الذي اعتمده المجلس الدستوري، يجعلنا ومن باب القياس نعتقد بأن المجلس الدستوري سيردّ الطعون الانتخابية شكلاً، لأن المشترع لم يضع قانوناً جديداً يراعي المتغيّرات الحاصلة في نظام الاقتراع النسبي والمنافسة الانتخابية الجديدة على أساس اللوائح بدلاً من النظام القديم القائم على المنافسة بين مرشحين فرديين وفق القانون الأكثري.
إذ بالعودة إلى قانون إنشاء المجلس الدستوري رقم 250 تاريخ 14/7/1993، نجد أنه قرر أصول قبول الطعن على أساس أن الانتخاب إنما هو تنافس بين مرشحين على أساس النظام الأكثري، إذ نصّت المادة 24 من هذا القانون: «يتولى المجلس الدستوري الفصل في صحة نيابة نائب منتخب والنظر في النزاعات والطعون الناشئة عن انتخابات أعضاء مجلس النواب وذلك بموجب طلب يقدمه المرشح الخاسر في الدائرة الانتخابية نفسها…»، وفي المادة 25: «يقدّم الطعن في صحة النيابة بموجب استدعاء يسلّم في قلم المجلس الدستوري، يذكر فيه اسم المعترض وصفته والدائرة الانتخابية التي ترشح فيها واسم المعترض على صحة انتخابه …». بحسب هاتين المادتين، فإن التنازع الانتخابي هو بين مرشحين فرديين فقط، وما يؤكد ذلك أن المادة 46 من النظام الداخلي للمجلس الدستوري قد فسّرت هذه العلاقة في إطار الطعن الانتخابي، وذلك عبر بيانها أن محلّ الطعن هو: «صحة نيابة نائب منتخب من أي مرشح منافس خاسر في دائرته الانتخابية»، وأن المادة 31 من قانون إنشاء المجلس الدستوري قد حدّدت صلاحية هذا المجلس: «بإعلان صحة أو عدم صحة النيابة المطعون فيها وفي هذه الحالة الأخيرة، يحق له إما إلغاء النتيجة بالنسبة إلى المرشح المطعون في نيابته وأبطال نيابته وبالتالي تصحيح هذه النتيجة وإعلان فوز المرشح الحائز على الأغلبية وعلى الشروط التي تؤهله للنيابة أو إبطال نيابة المطعون بصحة نيابته وفرض إعادة الانتخاب على المقعد الذي خلا نتيجة الأبطال».
يد المجلس الدستوري مرتفعة عن البتّ بالطعون الانتخابية إلى حين صدور قانون جديد يراعي هذه المتغيرات
ولما صدر قانون الانتخابات الجديد رقم 44 تاريخ 17/6/2017، فإنه استبدل نظام الاقتراع الأكثري القائم على التنافس بين مرشحين، إلى تنافس بين لوائح على أساس النظام النسبي، بحيث كانت اللائحة الانتخابية هي أداة المنافسة، وتعزيزاً للوائح أوجب القانون إلغاء كافة الترشيحات الفردية التي لم تنضوِ ضمن لوائح (المادة 52)، ثمّ أوجب حرمان اللوائح التي لم تنل الحاصل الانتخابي من المشاركة في توزيع المقاعد بحيث تلغى الأصوات التي حصلت عليها هذه اللوائح ويُعاد احتساب أصوات اللوائح المتأهلة حصراً (الفقرة 3 من المادة 99)، وأن الناخب يقترع للائحة (المادة 98)، وأن توزيع المقاعد إنما يكون على أساس اللوائح، بحيث يكون لكلّ لائحة حصتها وفق نسبة الأصوات التي حصلت عليها (الفقرة الأولى من المادة 99)، وأما الصوت التفضيلي أي ما يناله كلّ مرشح من أصوات ضمن اللائحة، فهو ليس اقتراعاً لهذا المرشح لأن الاقتراع هو للائحة، بل إن للأصوات التفضيلية غاية وحيدة فقط هي ترتيب أسماء المرشحين عند توزيع المقاعد (الفقرة 5 من المادة 99)، أي هي إجراء لتنظيم عملية توزيع المقاعد لا اقتراعاً لمرشح، والدليل أن الفوز ليس دائماً من نصيب من نال أعلى رقم من الأصوات التفضيلية، حيث رأينا بأن توزيع المقاعد على اللوئح قد أدى إلى فوز من نال أصوات قليلة واستبعد من نال آلاف الأصوات.
وبسبب هذه العينّة من المتغيرات في مفاهيم الاقتراع والتنافس الانتخابي وتبدّل نظام الاقتراع، فإنه لم يعد من الممكن القبول أن الطعن هو من مرشح خاسر ضد مرشحٍ منافس، بل إن ما يحصل عليه مرشح من أصوات تفضيلية ليست الحَكَم عند البتّ بالطعون، لأن القاعدة هي احتساب ما نالته اللائحة من أصوات لتفوز بمقعد يدخل في التوزيع لصالح المرشح المطعون بصحة انتخابه.
ثمّ كيف ينظر المجلس الدستوري في طعن بمقعد عائد للائحة معينة دون أن يكون لهذه اللائحة حق الدفاع؟ فالقانون القديم يوجب تبليغ الطعن إلى المرشح الخاسر، فلا يستطيع المجلس الدستوري إدخال اللائحة في المنازعة لبيان دفاعها، بالرغم من أن آثار حكم المجلس الدستوري لا يقتصر على المرشح المطعون بصحة انتخابه بل يطال اللائحة بحرمانها من حقها بالفوز بمقعد مقرر لها بمقتضى النظام الانتخابي الجديد، وربما تصبّ نتيجة الطعن في مصلحة مرشح في لائحة ثالثة فائزة، ولنُدْلِ بمثال: في دائرة زحلة على فرض أن المجلس الدستوري ألغى الـ 77 صوتاً التفضيلية التي حصل عليها المطعون بصحة انتخابه، فإن هذا الإلغاء لا يحرم لائحة زحلة الخيار والقرار المنتمي إليها من المقعد، لأن الأصوات التي حصلت عليها توجب منحها مقعداً إضافياً، ولهذا يستحيل على المجلس الدستوري منح هذا المقعد للمرشح المنتسب إلى اللائحة التي ينتمي إليها الطاعن.
إن هذا المثل كافٍ برأيي للقول بأن المجلس الدستوري قد يفكّر جدّياً بردّ الطعون الانتخابية بسبب عدم وجود قانون ناظم لعملية الطعن وآلية البت بها. وما يعزز هذا التوجه أن المادة 125 من قانون الانتخاب الجديد قد ألغت «جميع النصوص المخالفة لأحكام هذا القانون»، وهذا الإلغاء يسري تبعاً لما بيّناه أعلاه على النصوص الراعية للطعون الانتخابية على أساس النظام الأكثري والمنافسة الفردية بين مرشحين. ما يعني أن يد المجلس الدستوري مرتفعة عن البت بالطعون الانتخابية إلى حين صدور قانون جديد يراعي هذه المتغيرات.
* أستاذ جامعي