هكذا اذا مشهد معركة ضارية، ينبري للقيام بها لسحق «داعش» خليط من العسكر والمقاتلين المعبئين بروح الانتقام والتشفي، وبعقلية تصفية الحسابات والثارات القديمة، ومشبعين حتى التخمة بالتعصب المذهبي تحت شعار «تحرير الفلوجة». فالجيش العراقي العاجز بمفرده عن انجاز مهمة تحرير المدينة من تنظيم «داعش» الارهابي الذي احتل المدينة في 3 كانون الثاني (يناير) عام 2014، لذا كما تشهد الوقائع استنجد بالعديد من الميليشيات الشيعية (فيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني، لواء ابو الفضل العباس، حزب الله العراقي).
لقد حضر الجنرال قاسم سليماني المسؤول الايراني وقائد فيلق القدس ليدير بنفسه العمليات في الفلوجة حيث تخضع جميع القوى المسلحة، سواء كانت نظامية او ميليشيوية لامرته مباشرة. وقد اظهرت وسائل الاعلام وشاشات التلفزة سليماني مجتمعا بالقادة العسكريين من الحشد الشعبي. وما كنا قد حضرنا منه كما الآخرين الغيورين على مصلحة العراق، من حمامات دم وأعمال ثارية انتقامية من اهالي الفلوجة الذين لم يبق من سكانها البالغ عددهم 300 الف سوى حوالى 40 الى 50 ألفاً ما هم الان سوى رهائن ودروع بشرية يحتمي بهم «داعش»، إذا ببوادره تظهر منذ ايام عندما جرى ذبح العشرات منهم على الملأ. زد على ذلك اسر الميليشيات المغيرة على المدينة لحوالى 2500 من اهلها كرهائن. فاذا بنا نقابل جرائم «داعش» في المدينة وسواها من المدن التي احتلها بممارسات دموية تماثل افعال التنظيم الارهابي وتتطابق معها.
ان «مدينة المساجد» التي يفخر بها العراق، والتي قاومت الغزو الاميركي (2003) طيلة شهر بضراوة مشهود لها قد شهدت طيلة السنوات الثلاث عشرة الماضية سياسة الاضطهاد والتنكيل والتهميش وبالاخص طيلة حكم نوري المالكي رئيس الحكومة السابق الذي ظل يعتبرها «رأس الافعى» فأشاع حولها جوا معبأً بالكراهية والاحقاد. وما اطلقه نوري المالي من توصيف مهين بحق المدينة نسمعه الان يرد على لسان اوس الخفاجي قائد قوات ابو الفضل العباس عندما يقول عن اهلها «لا يوجد وطنيون عراقيون في الفلوجة ولا متدينون، كلهم ارهابيون، وهذه فرصتنا لتنظيف العراق من السرطان الموجود في الفلوجة«.
لقد فر ونزح غالبية اهالي المدينة الى الشمال، ومن تبقى منهم يتعرض لأبشع اعمال الاسر والوقوع بين المحررين المزعومين كرهائن، هذا ما عدا أعمال التدمير والحرق وجرف المنازل، هذا في الوقت الذي لم تلق آذاناً صاغية تحذيرات المرجع الشيعي العراقي الكبير علي السيستاني.
يبدو التحالف الاميركي ـ الايراني جليا في الفلوجة، حيث يشن طيران التحالف الاممي غارات جوية نوعية على مواقع «داعش» في المدينة. وكان قد سبق ومهد للمعركة المرتقبة، تلك الزيارة المفاجئة لوزير خارجية اميركا جون كيري في نيسان (ابريل) الماضي، تبعه بعدها وزير الدفاع الاميركي اشتون كارتر ثم نائب الرئيس الاميركي جون بايدن. وجو بايدن هو نفسه صاحب التصريح الشهير الذي تحدث فيه عن تقسيم العراق الى اتحاد فيدرالي مما اثار عاصفة من السخط في بغداد ما اضطر البيت الابيض لتقديم تطمينات الى الحكومة العراقية آنذاك.
ماذا بعد تحرير الفلوجة؟ وما هو مستقبلها؟ إن طرح هذا السؤال يصيب كبد الحقيقة، لأنه يطرح منذ الساعة مستقبل الموصل ومعركتها القادمة. فالمراقب للوضع العراقي بعد الحال التي آلت إليه البلاد بعد الغزو الأميركي الذي أسس لعملية سياسية مشبوهة على خلفية مذهبية واثنية قادت العراق إلى صراعات ومناخات مذهبية واثنية فاضحة، يدرك أن مشروع جو بايدن الذي قسمه إلى ثلاث فيدرليات واضعاً بينها حدوداً وجاعلاً لكل منها هوية خاصة قد أصبح قيد التنفيذ. فقد حوّلها المشروع إلى دويلات تصرف أمورها وكأنها عشية الانفصال النهائي. فإذا كان سحق «داعش» مسألة عصية تتطلب معارك ضارية، فإن إعادة اللحمة بين المتباعدين المتقاتلين هو أيضاً مسألة مستعصية. لا بل شهدنا بالأمس القريب عمليات تطهير اثنية ومذهبية طاولت التركمان والايزيديين هذا بعد أن خلا العراق نهائياً من أي وجود وازن للمسيحيين والصابئة.
تنظر الدول العربية المعتدلة بعين القلق إلى هذه التطورات. وتوجه هذه الدول قاطبة إصبع الاتهام إلى السياسة الأميركية ونتائجها المدمرة. فهي ما زالت تتصدى وتواجه توسع النفوذ الإيراني في المنطقة العربية في العراق وسوريا واليمن ولبنان. هذا بصرف النظر عن الاعتداءات الإرهابية التي تعمل على زعزعة الأمن في كل من البحرين والكويت وصولاً إلى السعودية ودول الخليج. وهي تعتبر أن التخاذل الأميركي والممالأة الأميركية حيال التدخل العسكري والسياسي الروسي في سوريا مسؤولاً أيضاً عن امتداد النفوذ الإيراني. فسوريا بدورها معرّضة لمشاريع التقسيم وخيارات «سوريا المفيدة» والتي تستهدف إسقاط حلب بيد النظام الأسدي كحلقة مكملة لخطر التقسيم أصبحت جدية أكثر من أي وقت مضى. ويضمن استمرار النظام الأسدي الملحق والتابع لطهران قوى مسلحة إيرانية وميليشيات مذهبية إيرانية الولاء يزداد خطرها بفضل القطع النادر الذي أصبح متوفراً بيد الحرس الثوري الإيراني الممسك عملياً بمقاليد السلطة في إيران. ويجيد الحوثيون التلاعب بأولويات أوراق العمل المطروحة في الكويت لوضع حد لنزف الشعب اليمني في تعز وسواها. فالسؤال الكبير المطروح بالنسبة لعراق ما بعد الفلوجة والموصل، مطروح أيضاً في سوريا بعد الرقة. أي عراق موحد قد بقي حيث لم يبق من الدولة سوى الشكل الظاهري وأي سوريا ستخرج من معمعان الحرب؟
وبعد كل هذا ألبست الفلوجة كما تكريت من قبل ومدن سورية عدة وصولاً إلى اليمن وسواها هي الدليل القاطع على أننا نعيش في مرحلة موصومة بالصراع المذهبي الذي يعمل على تمزيقنا وتدمير دولنا وتفتيتها في الوقت الذي تزداد الشكوك حول مشاريع ومخططات وخارطات يجري إعدادها في عواصم دول القرار ترمي إلى إعادة رسم كيانات المنطقة تبعاً للمصالح الدولية. فما المذهبية والإرهاب سوى ذرائع لها وأدوات.