المشهد بالأمس من قلعة معراب يشرح صدور اللبنانيين (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً) [ق/9]، مشهد الشتاء المنهمر بغزارة يُشعرك أنّها كانت لحظة مباركة تلاقت فيها الأرض والسّماء، عساها كانت لحظة استجابة تزيح عن كاهل لبنان وشعبه كلّ التعقيد والتعطيل «آمين».
في الكلمة التي ألقاها بالأمس قائد حزب القوات اللبنانيّة الدكتور سمير جعجع نقاط عدّة بارزة، إلا أنّ أبرزها هو «النداء» الذي توجه به إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون «أن ينقذ عهده بيده»، نظنّ أنّ هذا النّداء هو خلاصة المئة يوم ويزيد الماضية، هو «الذّروة» و»آخر الكلام»، لم يعد هناك من شيء يُقال بعد كلمة «أنادي» التي توجه بها «الحكيم» مخاطباً رئيس الجمهوريّة، وحدّد هذا النّداء نقطة البداية لخلاص العهد ولبنان أيضاً بكلمتيْن «بدءاً من تأليف الحكومة الجديدة»، هذا هو مسار الخلاص اللبناني، فهل يهبّ العهد لإنقاذ نفسه والبلاد معه، أم يدير ظهره ويستمرّ في دعم المعطّلين والمعرقلين بالحديث عن «الأسس والمعايير» والصلاحيات. الساعات المقبلة كفيلة بالإسفار عن مشهد الإجابة.
بالنسبة لنا، وليس من باب التشاؤم، إلا أنّنا نتوقّع أن يتعرّض الدكتور سمير جعجع لحملة شعواء تحت عنوان مطالبة القوات اللبنانية «أكثر من حقّها» وأن تنطلق الجوقة المعروفة كلّها لتصب تصريحاتها بالهجوم عليه وهم وجوه وأسماء معروفة «خُدّام» نظام الجزّار بشّار الأسد وتابعيه في لبنان، فقداس ذكرى شهداء القوات اللبنانيّة مناسبة سنويّة عند هؤلاء لشن هجمات ناريّة على «الحكيم» الذي حطّم آمال هذا النظام قبل ثلاثة وثلاثين عاماً بإسقاط الثلاثي ومنذ 21 آذار 1994 لا يزال مستمراً بتحطيم وإسقاط مخططات هذا النظام للقضاء على القوات اللبنانيّة وقائدها ومناضليها.
«كم من الجرائم ترتكب باسمك أيها العهد»، بات ملحاً أن يتحرّك العهد لاستنقاذ نفسه من ألسنة كثيرة منها البذيء ومنها الرخيص وقليل منها العاقل والمتّزن من النّطق عنه وباسمه، وكأن العهد لا لسان له، وهذا من أسوأ الظواهر الذي سادت المشهد السياسي منذ انطلاقة العهد، وهنا من الضروري أن نشير إلى أن العهود الرئاسية تخاطب الآخرين ومعهم الشعب عبر «بيان رئاسي» واضح ومقتضب، ظاهرات تكريس ألسنة تحكي عن العهد أساءت للعهد قبل أن تُسيء للآخرين!
نطق بالأمس الدكتور سمير جعجع وتصرف كرجل دولة، كعادته بمنهجيته الدقيقة والرزينة والواضحة، وحدّد المطلوب من العهد في ندائه لرئيس الجمهوريّة بعدما حدّد نقطة البداية بإنهاء التعطيل والعرقلة بتأليف الحكومة العتيدة، بنقاط ثلاث اختصرها بقوله «جُلّ ما هو مطلوب منه (من العهد) أن يشهد للحق ويلجم طمع البعض وينقذ التسوية الرئاسية الكبرى المهددة فعلاً في الوقت الراهن»، فهل يقدم العهد على إنقاذ التسوية الكبرى، أم سينبري النّاطقين الكُثر بلسانه بالقضاء على التسوية وإلقائها جثّة على قارعة التنصّل من كلّ التزاماته تجاهها وتجاه اتفاق معراب التاريخي؟!
هل يستجيب الرئيس لنداء الدكتور سمير جعجع؟ إن كان يترتّب علينا هنا تقديم إجابة للقارىء، أغلب ظنّنا أنّه لن يكون هناك استجابه، دائرة المحيطين بالعهد الضيّقة ستعيق هذا الأمر، هؤلاء عمليّاً الذي يعرقلون ويفشلون كلّ المحاولات الجديّة لانسجام العهد مع باقي المكوّنات اللبنانيّة، شعد العالم العربي هكذا حلقات ضيقة سيئة تحيط بالرئيس وتمنع وصول أي صوت غير صوتها إلى أذنه، على الأقلّ تجربة الرئيس جمال عبد النّاصر والحلقة الضيّقة ـ التي اصطلح على تسميتها بمراكز القوى ـ والتي أحاطت به وحاصرته وهي نفسها أوصلته إلى هزيمته الكبرى في حزيران العام 1967 لا تزال ماثلة في الأذهان، لمن يريد أن يستفيد من العبر!