IMLebanon

هل يحتاج الطاغية العنيف إلى تأهلٍ مختلف؟

 

يختلف اللبنانيون من أنصار النظام السوري في طرائق الاقتراح عليه من أجل العودة إلى لبنان من الباب الواسع. فذوو الأصول السورية من رجال الأعمال والمهنيين كالأطباء والمهندسين، ممن اكتسبوا الجنسية اللبنانية عبر العقود الماضية، ومعظمهم ذوو علاقات حسنة بنظام الأسد؛ يقترحون سراً وجهراً أن يكون الأسد ونظامه بشوشَين ومتعاونين بشأن إعادة المهجَّرين، وبشأن فتح المعابر لكي يستفيد اللبنانيون والسوريون والأردنيون. ويقول هؤلاء إن لذلك فائدتين: أن ينسى اللبنانيون ماضي الثلاثين عاماً وأكثر من الهيمنة والقمع والاستغلال والاغتيالات من جهة. والفائدة الأُخرى: أن شركات الأعمال اللبنانية والأردنية يمكن أن تُسهم إسهاماً بارزاً في إعادة الإعمار بسوريا، وبخاصة أن في لبنان والأردن رؤوس أموال هائلة سورية وفلسطينية وعربية، وهي تبحث عن فُرص للاستثمار وسط القيود الكثيرة المستجدة والكساد الذي تُعاني منه الأسواق!

لكن أنصار الأسد (المخلصين)، كما يسمون أنفسهم، والذين لم ينقطعوا عن دمشق في السنوات الماضية، لا يقبلون أساليب التودد والمحاسنة. فقد تعوّد اللبنانيون على اليد الباطشة لآل الأسد فخافوا وخضعوا، فلا ينبغي محاولة أساليب أُخرى غير عنيفة بما في ذلك ضرورة استجلاب الأموال اللبنانية إلى سوريا بالقوة. يقول سياسي سوري عجوز يعيش في لبنان: «لا أحد الآن عنده وقت أو صبر لكسْب الولاء، وإنما هو التخويف والابتزاز. وعلى أي حال، فإن الأسد لا يتهيب أحداً في لبنان غير نصر الله والحزب». ومن هذه الفرقة التي لا تختشي، كما يقول المصريون، اللواء المتقاعد جميل السيد وقد تهدد الرئيس بري الذي لم يتحمس كثيراً في السنوات الماضية لمذابح الأسد. وبالفعل، فإن بري سارع لدعوة الجميع للذهاب إلى سوريا بعد طول صمت! ثم إن اللواء عينه هدد قائد الجيش لأنه زار الولايات المتحدة (الأميركيون يساعدون الجيش اللبناني)، بحجة أنه يهمل صون الأمن في منطقة بعلبك! وهدَّد طلال أرسلان وليد جنبلاط لأنه عادى الأسد خلال الثورة، وقال إن الدروز كانوا دائماً مع الدولة السورية ورئيسها! لكن الضيف الجديد على صداقة سوريا: وزير الخارجية جبران باسيل. فهو منذ عامٍ لا يكف عن مغازلة الأسد ووزير خارجيته، وهو يرسل وزراء ونواباً من حزبه للاجتماع بمدير المخابرات السورية. وقد كان مطمئناً في الأصل إلى أنه هو الرئيس بعد الجنرال، وكان مكتفياً في ذلك بإرضاء الحزب. لكنه اختلف مع بري، وظهر أن سليمان فرنجية صديقٌ للأسد وسوريا أيضاً، وكما أن جعجع «عم يكبِّر رأس»، فهبَّ للمنافسة، وإلزام الحريري بالعلاقات من أجل المهجرين، ولأنه يرجو مساعدة الأسد في الرئاسة التي بدأ خوض معركتها منذ شهور، رغم أن عون لا يزال عنده أربع سنوات رئاسية! وباسيل يظن أنه يستطيع الضغط على الحريري وجنبلاط وجعجع على حدٍ سواء لأنهم خاصموا الأسد ولا يزالون.

كيف يؤهل الديكتاتور نفسه بعد حربٍ مهولة كالحرب السورية؟ خلال أقلّ من شهر أُبلغت أُسَرٌ من بلدة داريا بضواحي دمشق والتي جرت محاصرتها سنوات، ثم رُحِّل مقاتلوها، وجرى القبض على آلاف ممن اختاروا البقاء، أُبلغت الأُسَر من طريق «السجلّ المدني» عن موت نحو الألف من أولادها وأصولها وفروعها في المعتقلات، وبعضهم منذ عام 2013 أو 2016. وفي الغالب سيكون ذلك مصير ما لا يقلّ عن مائة ألف من أكثر من مليون معتقل في الجحيم السوري. وهذا يعني أن النظام يشعر بظهور عضلات جديدة لديه، فيُبلغ عن القتل، ويرجو من وراء ذلك استمرار الخوف والتخويف، تحت ستار تنظيف السجل المدني للمواطنين!

ولا شكَّ أن مقتل مئات الدروز في السويداء وقراها قبل أسبوع هو من ضمن هذا الأسلوب في التأهل المخيف. فدروز السويداء أرغموا النظام منذ عام 2013 على الاعتراف بحيادهم، فما انحازوا في أكثرهم إلى الثوار، ولا رضوا أن يخضعوا للتجنيد الإجباري لمقاتلة الثوار مع النظام. ومنذ ظهور «داعش» في عام 2014 كان هو العدو الثالث أو الرابع للنظام والإيرانيين والروس. وكانوا جميعاً (وغالباً معاً أو بالتوازي) يقاتلون الفصائل المسماة بالجيش الحر، وينسحب أحدهم للآخر عند الضرورة مثلما حصل في تدمر قبل عامين، وفي حوض اليرموك قبل أيام. المهم أن جيش «داعش» هذا هجم على السويداء وقتل وخطف، ثم سُمح له بالانسحاب من قرى حوض اليرموك نحو الصحراء مع خطائفه وأسلحته، فأعلن النظام السوري عن الاستيلاء على القرى في الحوض بعد قصفٍ عنيفٍ لم يمت فيه أحد بالطبع! مثلما قصف الجيش اللبناني الدواعش في جرود بعلبك والقاع أربعة أيام براً وجواً، لكنْ لم يمت منهم أحد؛ لأن الحزب كان قد اصطحبهم بالحافلات لعند أصدقائه في سوريا بعد أن انتهت مهمتهم الجهادية!

ليس المقصود من هذا القصص زيادة المرارة أو زيادة التوعية بما يسمى «المؤامرة». وإنما المقصود أن الديكتاتوريات الجديدة في القرن الحادي والعشرين بالذات، لا تخشى أحداً ولا شيئاً، ولا خوف إلا من القتل أو السقوط. ولذلك؛ فإن الأكثر تأهلاً للبقاء هو الأقوى أو الذي يموت آخِراً أو يعيش أخيراً بعد فناء جميع معارضيه وأعدائه!

كان الكاتب الأميركي بول جونسون مثقفاً كبيراً، لكنه ما كان يحب المثقفين. ولذلك؛ كتب دراسة في تتبع عثراتهم الأخلاقية، لكنها لم تشتهر، وإنما اشتهرت الدراسة التحقيقية بعنوان: «من الذي نفخ في المزمار؟ الحرب الباردة الثقافية». وهي تدور حول المثقفين الأميركيين والأوروبيين الكبار ذوي الميول الليبرالية واليسارية، والذين كانت المخابرات الأميركية وأجهزتها الثقافية تجهد في كسبهم إلى جانب زعيمة العالم الحر، ليعملوا دعاية ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، فيما بين الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين. ويعتقد الكاتب أن القصد كان الحيلولة دون «تأهُّل» روسيا الستالينية من طريق كتابات هؤلاء في الغرب. لكنه يتعجب لأن الروس ما كانوا مهتمين حقاً بأعمال هؤلاء المعادية في الأصل للرأسمالية وللحرب النووية (بعد هيروشيما وناجازاكي)، وهو الأمر الذي شكا منه عددٌ منهم متحدثين عن المفارقة بين اهتمام الـCIA بهم واستخفاف الـKGB! ولا مبرر للتعجب. فالأميركيون والأوروبيون كانوا يخشون من تأثير العلماء والأدباء اليساريين على شبانهم وأجيالهم الجديدة، أما المسؤولون الروس فإن «تأهلهم» لدى شعوبهم كان حاصلاً بالغولاغ وغير الغولاغ، وكانوا حريصين جداً على استقطاب جواسيس وعملاء من الغرب، أما المثقفون حتى لو كانوا معارضين للنظام الرأسمالي فقد كانت لهم اشتراطاتٌ كثيرة مزعجة للسوفيات أكثر مما هي مزعجة للأميركان!

يتحدث الدوليون بإعجاب عن بول كيغامي رئيس راوندا، التي جرت فيها مذابح بين الهوتو والتوتسي بلغت حدود المليون خلال أقل من سنتين. ثم هدأت حالة الذعر والتهجير، واهتم الغربيون حقاً بإعادة السلام إلى راوندا وبوروندي. وكان من حظ راوندا أن انتخب لرئاستها رجل يشبه ما حصل في جنوب أفريقيا مع مانديلا بعد عهود الفصل العنصري. فخلال عشر سنوات أو أقل صار هناك عفو عام وعدالة انتقالية ومصالحة وطنية كبرى، وراوندا الآن في طليعة الدول الأفريقية التي تحقق التنمية المستدامة! وبالطبع ما حقق كيغامي ذلك بمفرده، بل ظهرت نخبة وطنية سهرت وناضلت وكرهت سفك الدم كراهية مطلقة.

بشار الأسد حقّق تأهُّله للتأبيد في السلطة بتهجير عشرة ملايين، وقتل أكثر من نصف مليون. عاونه على القيام بالمهمات الجليلة هذه الإيرانيون والمتأيرنون والروس والميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية، والدواعش أيضاً! فما حاجته إلى التأهل الناعم بالداخل أو مع داخل الداخل اللبناني والأردني والفلسطيني؟! هؤلاء جميعاً مستضعَفون، والمطلوب خضوعهم وليس حبهم الذي لا مطمع فيه!

قبل عشرين عاماً أو أكثر سمعتُ في برنامج تلفزيوني الدكتور عبد السلام العجيلي، المثقف والروائي السوري الراحل (وأظنه من دير الزور)، يقول إنه خاضع مثله مثل سائر السوريين والعرب الآخرين، لكنه لن يمتدح الطاغية أو يغنّي له؛ لأن الممدوح لن يصدِّق، والمادح لا يكون إنساناً سوياً:

يريدون مني أن أغني باسمهم

وأي قتيلٍ باسم قاتله غَنّى