حين تتقاعس الدولة يبقى الأمل بكلب
حبس اللبنانيون أنفاسهم وهم يتابعون حركة كلب يشتمّ رائحة إنسان تحت الركام، صارت آمالهم المهزومة وحواسهم المخدّرة معلقة على حاسة كلب لا يزال باستطاعته التفريق بين رائحة الموت ورائحة الحياة. الكلبة التشيلية ” فلاش” جعلت القلوب تنبض ترقباً على وقع أقدامها علها تجد بين الركام قلباً لا يزال ينبض بعد أن تخاذل الجميع عن نبش أكوام الركام الجاثمة على قلب بيروت وأعلنوا موت الآمال.
مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلت بشكل كبير مع مهمة الكلبة التشيلية “فلاش” وبسرعة جعلت منها بطلة قومية وربما لقلة الرجال اسموها “أبو علي”. ألم يكن بالإمكان الاستعانة بكلاب لبنانية مدربة لاقتفاء اثر المفقودين المطمورين تحت اشلاء بيروت؟ وهل مكتوب علينا دائما انتظار الغرباء للقيام بمهامنا الوطنية؟
في حين أنّ بلدان العالم تكرّم الكلاب البوليسية وتمنحها الأوسمة وشهادات التقدير وقد تقيم لها النصب التذكارية تقديراً لجهودها في المهام الإنسانية والبوليسية والحربية الصعبة، ففي لبنان ثمة وجود خجول للكلاب المدربة في الأجهزة العسكرية المختلفة من قوى الأمن والأمن العام والجيش. ومؤخراً تم ّفي معهد قوى الأمن الداخلي تخريج ضباط وأفراد، تابعوا دورة تدريبية للكشف على فيروس كورونا واكتشاف المصابين به بواسطة الكلاب البوليسية عبر برنامج علمي طبي تمّ تطويره من قبل البروفسور رياض سركيس للكشف عن الفيروس بواسطة الرائحة المميزة التي يطلقها ويمكن للكلاب التعرف عليها.
أما سرية خبراء المتفجّرات في فوج الهندسة في الجيش اللبناني فتملك عدداً من الكلاب الكاشفة للألغام مع مروضيها و يشكّل هؤلاء المروضون “فصيلة التفتيش” في سرية خبراء المتفجّرات ويعملون على مختلف الأراضي اللبنانية. من جهتها أنشأت قوى الأمن الداخلي في رومية مكتب اقتفاء الأثر يتم فيه تدريب الكلاب على إيجاد الأشخاص المفقودين أحياء او أمواتاً، لكن يبدو أنه حتى اليوم لم تثبت بعد فعالية هذا المكتب في عمليات الإنقاذ. وعلى خط الأمن العام نظمت المديرية العامة للأمن العام منذ مدة دورة “مروض كلاب بوليسية تأهيلية”.
الكلبة البطلة
حضور الكلبة “فلاش” الى لبنان مع فريق الإنقاذ الشيلي جعلنا نتساءل من هي هذه الكلبة البطلة القادرة على إنقاذ حياة ؟ اي موهبة منحها إياها الخالق حتى تتمكن من تجاوز وظيفتها الحيوانية وبلوغ ما يشبه مرتبة إنسانية سامية؟
د. فؤاد الحج الاختصاصي في الطب البيطري تابع قصة الكلبة ” فلاش” ويخبرنا انها من فئة Border Collie وهي كلاب تتمتع عادة بنشاط وحيوية كبيرين وبعين ثاقبة قادرة على رؤية التفاصيل ويمكن تدريبها بسهولة وفعالية وهي كلاب ذكية جداً ولكن ليست اذكى من سواها. رياضية تبرع بالقفز والتقاط الأشياء وتستخدم عادة ككلاب رعيان ولكن بات من الشائع رؤيتها في المهمات الإنقاذية وفي الملاجئ. ويتم أحياناً إلباسها الأحذية الخاصة او الجوارب حتى لا تصاب اقدامها بشظايا الزجاج او الردم كما تتم إراحتها بعد فترة من العمل حتى تسترد أنفاسها وترتاح حاسة الشم عندها.
هذا النوع من الكلاب ليس الوحيد الذي يمكن تدريبه لعمليات الإنقاذ والتفتيش عن الأحياء أوعمليات بوليسية أخرى مثل اقتفاء اثر المخدرات او المتفجرات او بعض الأمراض بل ثمة ما يفوق 20 نوعاً من الكلاب يتم تدريبها واشهرها الـ Berger allemand و الـ MalinoisBelge. في المقابل ليست كل انواع الكلاب قابلة للتدريب إذ يجب ان يتمتع الكلب بالحشرية والذكاء والحجم المناسب ولديه حاسة شم قوية. تخضع الكلاب الصغيرة لاختبارات محددة لمعرفة مدى قابليتها للتدريب ونسبة ذكائها، إذ كما البشر، يقول الطبيب، بعضها غبي لا يمكن التعويل عليه فيما بعضها ذكي وقادر على التطور. عندما يتم اختيار الأفضل بينها تبدأ عملية التدريب ونجاحها يتوقف على احتراف المدرب وتمرسه وعلى التقنية المستخدمة في التدريب وكل مهمة لها تقنية تدريب مختلفة. وعملية التدريب بحاجة الى الكثير من الحب واللطف وطول البال من قبل المدرب مع الابتعاد التام عن القسوة او العنف لتأمين تجاوب اكبر من الكلب.
وتبقى النقطة الأهم الحفاظ على صحة الكلاب إذ لا يمكنها أن تؤدي المهام المطلوبة منها إذا كانت مريضة أو متعبة بل يجب ان تكون بصحة كاملة لتتمكن من استخدام حاسة الشم عندها بشكل مثالي. فإنتاجية الكلاب وحاسة الشم لديها تتأثر بعوامل مختلفة أبرزها: المرض، الرطوبة، سرعة الهواء، الحرارة ونفسية المدرّب.
مدارس متخصصة وتقنيات مختلفة
الطب البيطري على أهميته لا يستطيع الاستفاضة في الحديث عن تدريب الكلاب الذي يحتاج الى مختصين متمرسين. هيثم شديد هو الاختصاصي الاول في لبنان وربما في العالم العربي الحائز على شهادة ماستر في تدريب الكلاب وإعداد مدربيها من الولايات المتحدة. انشأ في لبنان مع والده مدرسة K-9 –Village الحائزة على ترخيص رسمي من الدولة اللبنانية وطور اعمالها لتصبح مختصة بتدريب الكلاب البوليسية. تعاون مع الإسكوا في لبنان حين عملت على إنشاء فرقة مكافحة المتفجرات وعمل في الكونغو الافريقية على تدريب كلاب للكشف عن المخدرات والمتفجرات والأموال المهربة ايضاً. أما في لبنان فقد عرض على الجهات المختصة خدماته مجاناً لتدريب كلاب بوليسية بشكل محترف لمهام مختلفة لكن كالعادة كانت الأمور تصطدم بالبيروقراطية القاتلة وبكثير من المعطيات الأخرى، ما جعله في النهاية يستسلم ويغض النظر عن هذه المهمة.
يعترف شديد أنه رغم وجود كلاب مدربة في أجهزة عسكرية متعددة في لبنان إلا أن تدريبها ليس على المستوى المطلوب ولا يمكنها تأدية مهمات عالية الصعوبة بنجاح كلي كما في الدول الأخرى لأن مدربيها يفتقدون الى الخبرة الضرورية لهذا العمل التقني الدقيق. أما اكثر ما يؤسفه فهو انه لم يكن متواجداً في لبنان عند حدوث الانفجار المأسوي إذ لربما كان باستطاعته المساهمة في التفتيش عن احياء بين الردم نظراً لوجود كلبين مدربين عنده جاهزين لهذه المهمة لكنهما لا يعملان إلا معه.
يخبرنا شديد أن تقنيات تدريب الكلاب تختلف بين مهمة وأخرى ويجب اختيار الكلب الصحيح لكل واحدة منها. فكل مهمة تحتاج الى طبع خاص في الكلب، فكلب المتفجرات أو الألغام مثلاً ينبغي أن يكون هادئاً وأن يتمتع في الوقت نفسه بدينامية وغريزة قوية وأن يكون قادراً على التركيز وليس “أهوج”. كما أن ردة الفعل التي يُدرّب على إبدائها عند اكتشافه للمتفجرات ينبغي ان تكون هادئة حيث يتم تعويده على الجلوس وليس الحركة والانفعال حتى لا يتسبب بانطلاق المتفجرات مثلاً. واليوم يتم تدريب كلب المتفجرات على اللحاق بضوء اللايزر بدل تواجد المدرب الى جانبه وهي تقنية حديثة ومهمة جداً.. أما كلب المخدرات فردة فعله تكون مختلفة إذ يمكن ان ينبح ويخرمش باظافره للفت الأنظار او ينام أمام المخدرات. وهنا لا بد من الإشارة الى أن ردة الفعل الغريزية لدى الكلاب عند تحقيقها عملاً ما ونيلها مكافأة على أثره هي ردة فعل حيوية لا خامدة لذا من الصعوبة بمكان “تعويد” الكلب على القيام بردة فعل خامدة مثل النوم أو الجلوس حين يكتشف شيئاَ.
كلاب اقتفاء الأثر ينبغي ان تكون من الكلاب التي تتعلق بطبيعتها بصاحبها وتصاب بقلق إذا ما رحل او ابتعد عنها. ونحن كمدربين نستغل هذه الصفة لندرب الكلب على التفتيش عن أشخاص مفقودين وننمي عنده الإرادة والصبر والمثابرة ليستمر في بحثه حتى إيجاد الشخص الذي يبحث عنه. كما ننشّط عنده حاسة الشم لتتمكن من العمل على مراحل أطول ويتعرف على الرائحة عبر مسافات اطول او يكتشفها تحت الردم، من هنا يستغرق تدريبه وقتاً أطول. وكلاب اقتفاء الأثر يمكنها ان تجد شخصاً حياً او ميتاً لأن الرائحة لا تتغير إلا بعد بضعة ايام حين يتحول الجسم الى جثة وتختلف التقنية قليلاً بين ايجاد جثة او شخص حي.
شخصية الكلب اساس مهاراته
هل تلعب الفصيلة دوراً في اختيار الكلب المناسب للمهمة المحددة؟ الدور الأهم لشخصية الكلب لا الفصيلة، فضمن الفصيلة ذاتها او البطن نفسه قد تتواجد شخصيات مختلفة؛ المهم أن يتمتع الكلب بثلاث مزايا وهي “الريح” القوي، الدينامية او حس المبادرة والقدرة على الاحتمال، وبالطبع لا بد ان يتمتع بالذكاء الذي تتم تنميته بالتدريب.
يتم فحص الكلاب وهي لا تزال ما بين 6 الى 8 اسابيع من العمر وبعدها يبدأ العمل على تدريبها ولكن الكلب لا يصبح جاهزاً إلا في عمر السنة حيث يكون قد هدأ وما عاد يتلهى باللعب والحركة، والكلاب المدربة على اشتمام الروائح غالباً ما تتقاعد في عمر خمس سنوات او ثمانية كحد أقصى. تختلف تقنيات التدريب بين أوروبا واميركا ففي اميركا يتم العمل بشكل مكثف على الكلاب ولوقت اطول لتعطي نتيجة مثالية بينما في اوروبا يجدون أن هذا يتعب الكلاب ويجب مراعاتها أكثر.
تعتبر كلاب Malinois من أكثر الفصائل المستخدمة عالمياً ولكن يمكن لأي كلب هجين ان يُدرّب شرط ان يمتلك الخصائص المطلوبة. والكلاب المدربة تخضع لتمرين يومي على تقصي الروائح او الأهداف المطلوبة ويتم ذلك على شكل ألعاب ومكافآت وينبغي ان تتبع الكلاب نظاماً غذائياً غنياً بالبروتين والدهون لانها تستنفد طاقة كبيرة ومن أفضل التمارين الرياضية للكلاب المدربة السباحة لأنها تقوي العضل والقدرة على التحمل من دون ان تضع ضغطاً على المفاصل.
ختاماً يؤكد شديد أن مهارة الكلب من مهارة مدرّبه وهو يفقد الكثير من مهاراته حين يكون مع مدرب غير كفوء، ومن جهة ثانية على المدرب ان يتماهى مع كلبه ويشعر معه ليعرف ما إذا كان مرتاحاً او متعباً فيعمل على إراحته إذا وجده لا يقوم بعمله بالشكل المطلوب. فالأمر كله في النهاية عند الكلب مجرد لعبة يقوم بها لا لهدف إنساني طبعاً بل للحصول على مكافأة يسعى إليها.