لم يعد قانون الانتخاب وحده المطروح أمام الحوار الوطني بعد التسليم بتعذر توافق اللجان النيابية المشتركة ـ من دون أن تختم أعمالها ـ على صيغة قانون جديد. تبدو التوقعات أخفّ وزناً من جدول أعمال ثقيل هو «دوحة لبنانية»
يتوخى رئيس مجلس النواب نبيه بري الحصول من شركائه في طاولة الحوار الوطني، في 21 حزيران، على أجوبة عن “دوحة لبنانية” كان قد دعا إليها قبل أسابيع. في الاجتماع الأخير لطاولة الحوار رغب إليهم في ردود على مبادرته.
رغم انقضاء أكثر من ثماني سنوات على إبرامه في قطر، في 21 أيار 2008، يكاد اتفاق الدوحة يمثل النموذج، الوحيد، القابل للحياة لأي تسوية لبنانية محتملة. أخفق اتفاق الطائف في الاضطلاع بهذا الدور، ولم يعد ثمة مَن يعثر على حلول للأزمات بالعودة إلى نصوصه في الدستور ووثيقة الحوار الوطني. باتت مشكلات لبنان تختصر في ثلاث، تنتقل من عهد إلى آخر كأنها المرة الأولى.
افتتح المأزق عام 2007 بالخلاف بين مَن يرأس الجمهورية حينذاك خلفاً للرئيس إميل لحود مع انقضاء ولايته، وتنازع فريقي 8 و14 آذار على إيصال كل منهما مرشحه. بمرور ستة أشهر على الشغور، اتسعت دائرة المأزق كي تقفز من الخلاف على اسم الرئيس إلى الخلاف على ولايته وتقاسم السلطة والصلاحيات معه في العهد الجديد. وهي الفلسفة الفعلية، المزدوجة الهدف التي خلص إليها اتفاق الدوحة: الانتقال بالحكم من ممارسة صلاحيات دستورية إلى ممارسة أعراف محدثة موازية، ووضع السلطة بين أيدي موازين القوى على الأرض. مذ ذاك كرّس اتفاق الدوحة السابقة. على غرار عامي 2007 و2008، لم يعد في الإمكان اليوم التفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية في معزل عن الاتفاق على أولى حكومات العهد الجديد وقواعد تأليفها، وتالياً على قانون الانتخاب، وربما على ما هو أكثر من ذلك.
رئيس المجلس: الانتخابات البلدية كعب آخيل، هرهرت الجميع
عندما وقع شغور 2007 كانت ثمة أزمة اعتراف بدستورية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد استقالة الوزراء الشيعة منها لسنة خلت، وكان التفكير في الانتخابات النيابية مؤجلاً ما دام الاستحقاق بعد سنتين. لكن تفاقم الانقسام الداخلي وإطالة أمد الشغور وضع الأزمات الثلاثة في سلة واحدة لم يسعها إبصار النور إلا في اتفاق الدوحة على صفيح ساخن. عاش الاتفاق ثماني سنوات ولا يزال يبعث حياً رغم أن بنوده نفذت كلها في الأشهر القليلة التالية مما تبقى من عام 2008: انتخاب الرئيس ميشال سليمان (ثم انتهاء الولاية زائداً سنتين شغوراً)، الحكومة الثانية للرئيس فؤاد السنيورة (خلفتها لاحقاً بمواصفاتها حكومات الرؤساء سعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام)، انتخابات نيابية عام 2009 وفق قانون انتخاب جديد فُصّلت دوائره في قطر فأفضت إلى نتائج مطابقة لانتخابات 2005 التي أُجريت في ظل قانون 2000 بأن احتفظت قوى 14 آذار بالغالبية نفسها، الوهمية مرتين على التوالي.
عندما دعا بري إلى طاولة حوار وطني قبل أشهر، حدد جدول أعمال أبرز بنوده القواعد الثلاث إياها في اتفاق الدوحة. قبل أسابيع اقترح تسوية شاملة دعاها “دوحة لبنانية” لأن المأزق الداخلي يترنح على حبال مآزق 2008: انتخاب الرئيس، أولى حكومات العهد الجديد، قانون الانتخاب ومن ثم انتخابات نيابية. وعلى غرار ما خبرته البلاد منذ شغور 2007 وصولاً إلى أيار 2008، بتعثر التفاهم على الرئيس من فرط وفرة المرشحين حينذاك (كان سليمان أحدهم المتقدّم وليس الوحيد) والخلاف على موازين القوى في السلطة الإجرائية الجديدة لا على تأليف الحكومة، والتسابق على الأكثرية المطلقة في البرلمان الجديد… هكذا حالها اليوم.
نظرة رئيس المجلس إلى “دوحة لبنانية” تختلف قليلاً عن دوحة 2008، على الأقل في إعادة ترتيب الأولويات. عامذاك تمحورت المشكلة برمتها من حول انتخاب رئيس الجمهورية في ظل استحقاقات أخرى مواعيدها مؤجلة، وخصوصاً الانتخابات النيابية. اليوم يقول بري إن الاتفاق على قانون للانتخاب، قبل عشرة أشهر من موعد الانتخابات، هو مدخل تسوية سياسية متكاملة لم يعد في الإمكان تجزئتها أو إهمال أحد شطورها: سلة أو لا سلة.
ليس خافياً قوله مراراً في الأشهر المنصرمة إن انتخاب الرئيس أفلت من أيدي اللبنانيين وبات رهن تسوية إقليمية سعودية ـ إيرانية، بيد أن انتخابات حزيران 2017 ليست قابلة للتقريش على الأقل: خلافاً لشغور الرئاسة عندما تناط صلاحيات رئيس الجمهورية بالحكومة القائمة، فإن شغور السلطة الإجرائية يضع مجلس النواب في فراغ شامل وتام، ليس في وسع أي مرجعية أخرى ملئه، ناهيك بكونه مصدر السلطات التي تنبثق منه.
يدفع ذلك بري إلى القول: “أتت الانتخابات البلدية أشبه بكعب آخيل، هرهرت الجميع دفعة واحدة وأصابت منهم مقتلاً، ووضعت الجميع أمام خيارات أحلاها مرّ، هو الذهاب إلى قانون انتخاب ومن ثم الانتخابات النيابية”.
لا يرى الأبواب موصدة أمام الوصول إلى “دوحة لبنانية”، ولا يؤيد الرأي القائل بأن الأفرقاء اللبنانيين أرغموا على تلك عام 2008. يتذكر اليوم الأخير 20 أيار: “أعددتُ الحقائب للمغادرة بعد فشل الاتفاق، وكدت أغادر لو لم يوافق العماد ميشال عون في اللحظة الأخيرة على تقسيم دوائر بيروت. قال لي أمير قطر إنه سيعقد مؤتمراً صحافياً يحملني مسؤولية فشل المؤتمر والتسوية، وإنني أنا خرّبتهما. كاليوم، توقف الاتفاق السياسي برمته على قانون الانتخاب، إلى أن سُوّي التفاهم على الدائرة الثانية من بيروت. قلت في ذلك الحين عن قانون الانتخاب ما أقوله الآن. أنا مع كل ما يقرره المسيحيون”.