تتركز انظار العالم على مفاوضات الدوحة التي تقودها واشنطن للاتفاق على وقف اطلاق النار وتبادل الاسرى علها تؤدي الى وقف الحرب فى غزة. وتزداد أهمية هذه المفاوضات لاقتناع واشنطن بأن وقف إطلاق نار سريع وفوري في قطاع غزة ممكن ان يؤدي الى خفض التصعيد وللحؤول دون اندلاع الحرب الشاملة المحتملة في المنطقة.
تستند هذه المفاوضات على اتفاق الاطار الذي ارساه قرار مجلس الامن 2735 والمرتكز أصلا على مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن ومراحلها الثلاث لوقف اطلاق النار وتبادل الاسرى والمساجين، تمهيدا لوقف العمليات القتالية والانسحاب الكامل من غزة والشروع في إعادة اعمار غزة.
تكمن إشكالية اتفاق الاطار انه بمجرد اعلان نتانياهو عن قبوله السير به والالتزام بتنفيذ كافة مراحله هو اعلان للفشل الاستراتيجي لسياسته ولرؤيته للنصر الكامل في حربه العبثية على قطاع غزة والمنطقة.
على الرغم من اعلان مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي عن تمكن الوسطاء من تضييق الفجوات بين حماس وإسرائيل والخلافات المتبقية قابلة للحل. وعلى الرغم من ان كيربي أكد أيضا أن إسرائيل وحماس أطلعا على مقترح الاتفاق بشأن غزة وقدما تغييرات عليه وتجري مناقشة تفاصيل تنفيذه وليس إطار العمل، الا ان اتفاق وقف اطلاق النار دونه عقبات كثيرة.
سبق وأعلنت إسرائيل وحماس عن قبولهما التفاوض وفقا لاطار العمل، الا ان كلاهما يعلنان غير ما يضمران. ومرد ذلك الى ان نتانياهو قد يقبل بوقف لاطلاق النار مقابل اطلاق الاسرى لكنه لن يقبل باي شكل من الاشكال بوقف العمليات القتالية والانسحاب من قطاع غزة قبل تحقيق النصر الكامل والقضاء على حماس وتحرير كامل الاسرى. في المقابل قد يقبل السنوار بوقف اطلاق النار لكنه لن يقبل بتحرير كل الاسرى قبل ضمان التزام إسرائيل وقف كامل العمليات القتالية وانسحابها من كامل قطاع غزة.
وفقا لكلاوزفيتز فإن «الحرب هي امتداد للسياسة انما بوسائل أخرى» مما يحتم ان تخدم الحرب الأهداف السياسية وتكون الحرب أداة لتحقيق الغايات السياسية النهائية. ويحتم هذا المبدا ايضا وجوب تامين الترابط الاستراتيجي ما بين الاهداف العسكرية والغايات النهائية على مستويات الحرب كافة. ويكمن العيب الجوهري في استخدام نتانياهو لعبارة «النصر الكامل والحاسم» كونه يربط تحقيق هذا النصر بضمان أمن اسرائيل والمستوطنات من خلال تدمير حماس وتحرير الاسرى حصرا.
هذا المفهوم الملتبس للنصر الكامل الذي يروج له نتانياهو وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت بانه «ترهات». وهذا التباين بين الرجلين يظهر مدى عمق الفجوة ما بين من يحدد الرؤية السياسية للحرب وغاياتها النهائية كسلطة سياسية، وبين من هو مكلف بهندسة الحملات العسكرية وخوض العمليات القتالية على مسرح الحرب لتحقيق الانتصار على مختلف مستويات الحرب وتحقيق النصر الكامل. وهذا التباين وحده يؤكد عقم الخيارات السياسية/العسكرية التي يروج لها نتانياهو. وهذا التباين سيحدد بالتالي التوصيف الحقيقي والنهائي لمالات العمليات العسكرية في غزة.
وفقا لمبادئ ونظريات الحرب فان الحروب تخاض على مستويات ثلاث، المستوى التكتي، العملياتي، العسكري الاستراتيجي، وعليه يتوجب على المعارك والحملات العسكرية والحرب تحقيق النصر على المستويات الثلاث تمهيدا للوصول الى تحقيق الغايات النهائية على المستوى السياسي وبالتالي تحقيق النصر الكامل على المستوى الاستراتيجي القومي الوطني.
على المستوى التكتي يتحقق النصر عندما تتمكن الوحدات المقاتلة من شل او تدمير او ابادة القوة المعادية في منطقة محددة او بابادة قوات العدو في المعركة والسيطرة على الأراضي بطريقة تمنع قدرة العدو من مواصلة القتال في تلك المنطقة، على سبيل المثال يمكن القول ان الجيش الإسرائيلي حقق نسبيا النصر التكتي شمال قطاع غزة. لكنه لم يفلح بعد بتحقيقه في خان يونس او رفح او جنوبي قطاع غزة.
ويتحقق النصر العملياتي عندما تقوم الوحدات العملياتية بتفكيك نظام القتال لدى العدو الذي يواجهه وعلى كامل المسرح العملياتي. ويمكن القول إن الجيش الإسرائيلي يسعى الى تحقيق نصراً عملياتياً في معظم مناطق قطاع غزة لكنه يبقى غير مكتملا، طالما لا زالت منظومة القيادة والسيطرة لدى حماس قادرة على شن العمليات العسكرية واستهداف الجيش الاسرائيلي في معظم المناطق وسط وجنوبي قطاع غزة.
اما على المستوى العسكري الاستراتيجي فيتحقق النصر عندما تؤدي العمليات العسكرية الى إزالة قدرة حماس على فرض تهديد عسكري في الساحة العملياتية لسنوات عديدة قادمة. ويتطلب النصر الاستراتيجي تغييرات جوهرية في الموقف على الأرض كفقدان القدرة على شن حرب عصابات وفقدان دعم السكان لحماس ومنعها من إدخال أسلحة وتمويل جديدين على نحو قد يسمح لها بالتعافي. وكل هذه الامور مع استمرار حماس بامتلاكها لزمام المبادرة ولارادة القتال وقدرتها على شن الهجمات وتوجيه الضربات للقوى المنتشرة في قطاع غزة لا يسمح باعتبار ان اسرائيل استطاعت تحقيق النصر الاستراتيجي طويل الامد كونها لم تستطع اولا تحقيق النصر العملياتي ولم تستكمل بعد تحقيق متطلبات النصر الاستراتيجي.
اما النصر الكامل على المستوى الوطني، هو عندما يؤدي النصر العسكري إلى تغيير جذري في الوضع الجيوسياسي، مثل اقتناع حماس او السلطة الفلسطينية بتوقيع معاهدة سلام أو إنشاء نظام جديد يؤدي إلى انهاء الصراع العسكري وتحقيق حالة أمنية هادئة وضمان عدم تشكيل أي تهديد للامن القومي لعقود قادمة.
وفي ضوء كل هذا، يبدو أن «النصر الكامل» الذي يسعى نتانياهو تحقيقه لم يرقَ بعد الى مستوى النصر العملياتي. واذا ما استمر نتانياهو في حربه العبثية لتحقيق النصر الكامل وفقا لمعاييره ومفاهيمه العسكرية الملتبسة ومن خلال ارتكاب المزيد من جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وعبر قتل او تهجير اكثر من مليون ونصف فلسطيني مع احتمال وفاة كل الاسرى، سيولد المزيد من الإحباط والرغبة بالثأر والعنف غير المسبوق. ولن يشكل باي حال توطئة لسلام عادل وشامل. لكنه من دون شك «سوف يستبدل النصر التكتي للجيش الإسرائيلي بهزيمة استراتيجية» وذلك وفقا لما اعلنه سابقا وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن خلال منتدى ريغان للدفاع الوطني.
فهل يقبل نتانياهو اليوم وقف اطلاق النار، تمهيدا لوقف العمليات القتالية، والانسحاب من قطاع غزة؟ وهو يعلم ان عدم تحقيق النصر الكامل سيجعل منه اول ضحية لما لم تستطع إنجازه الة الدمار العسكرية خدمة لرؤية واهداف سياسية ملتبسة؟
مفاوضات الدوحة المترنحة لم تعد مرتبطة حصرا بحرب غزة ومصير نتانياهو إنما ايضا أصبحت معيارا لتقييم فعالية إدارة بايدن ومقدار وحجم وفعالية الضغط الذي يمكن ان تمارسه الإدارة الأميركية وعلى أبواب الانتخابات الرئاسية للوقف الفوري لهذه الحرب العبثية التي اذا ما سمح لها بان تتحول الى حرب شاملة ستطيح بالهيكل على رؤوس الجميع.
ما بين اوهام النصر وواقع العمليات العسكرية وحدها قدرة الصمود لدى المقاتلين الغزاويين واشلاء ودماء الضحايا الذين سقطوا، وحدها ستعيد كتابة التاريخ بأحرف من غار.
عميد ركن – طيار