دوحة الصحافة هوت بعد عمر مديد، وعراك مرير مع الزمن، وأحدثت فراغاً ليس من السهل ان يملأه أحد.
لم يكن نقيباً للصحافة فقط، على مدى ثلاثين عاماً، ولم يكن أزهرياً متنوراً جمع بين الثقافة الإسلامية والفكر العلماني وحسب.
ولم يكن مجرّد مناضل متمرد، انضجته سنوات السجن ليصبح مواطناً ملتزماً قضايا الوطن، وخدمته السامية.
محمّد البعلبكي كان كل ذلك في شخصية جذّابة الحديث، متواضعة بدون انحناء، وشامخة من دون غرور وكبرياء.
كان مدرسة في استيعاب الآخر، من خلال مخاطبته بمنطق لا يعرف التعصب، ولا يلجأ إلى التهويل والتشهير، ولا يقارب أساليب الضغط والابتزاز، عملاً بقوله تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»، وهذه الاية كانت لا تغيب عن مجلس الازهري، الذي خلع العمّة، ليلتحق بجامعة الانجيليين، الجامعة الأميركية في بيروت، تلميذاً، ثم استاذاً في الأدب العربي.
فهم الإسلام كدين للحرية والمساواة والتسامح بين البشر، حيث «لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى» و{وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، و{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}.
وعالج مفهوم الحرية في الدين الحنيف بمعانيه وأبعاده الإنسانية الواسعة، حيث {من شاء فليؤمن.. ومن شاء فليكفر}، مستشهداً بالآية الكريمة: {والله يفصل بينهم يوم القيامة}.
مارس كل هذه المبادئ والقيم في ادارته الحكيمة لنقابة الصحافة اللبنانية، وحافظ عليها جسماً نقابياً واحداً، في زمن الحروب والانقسامات، يوم أصبح للبنان حكومتان، وجيشان، وتشرذمت العديد من النقابات والمؤسسات، وما زال بعضها يعاني من تداعيات التقسيم في تلك السنوات العجاف.
ودفاعه الدائم والمستمر عن حرية الصحافة، وعدم التعرّض للصحافيين، لم تحرج علاقاته المميزة مع أهل السلطة والسياسيين، بل حرص على توظيف تلك العلاقات لتحقيق العديد من المكاسب للصحافة، في مقدمتها إلغاء التوقيف المسبق للصحف، وإلغاء التوقيف الاحتياطي للصحافيين.
سألته في جلسة تجلٍّ إبان رحلة مشتركة إلى دولة عربية: هل ترهبك فكرة الموت؟
فرد بابتسامته المعهودة: أيهما أفضل هذه الدنيا الفانية، أو الانتقال إلى العيش في ظلال رحمة الرحمن الرحيم!
إلى جنات الخلد… ورحمة الرحمن الرحيم.