عقد عشراتُ المعلِّقين والكُتّاب والمستشرفين العرب آمالاً ضخاماً على القمة الخليجية التي أنهت أعمالها يوم الثلاثاء الماضي بالدوحة عاصمة دولة قطر. وتأتي تلك الآمالُ من الأزمات التي تفاقمت في أكثر من بلدٍ عربي، ومن القضايا والمشكلات التي تتطلب حلولاً ومعالجاتٍ بعد مُضيّ عقودٍ وعقودٍ على ظهورها وتفاقُمها.
أبرز المشكلات تلك التي تسبّب بها أو خلّفها الربيع العربي في عدد من البلدان العربية وبخاصة في العراق وسوريا وليبيا واليمن. وهذه المشكلات جميعا وعلى التفاوت في درجات تأزُّمها سبق لدول الخليج العربية أن تدخلت فيها وفي غيرها. تدخل مجلس التعاوُن في البحرين وفي اليمن وفي مصر. وقد تحققت نجاحاتٌ في كل من البحرين ومصر، ولا بد من الاستمرار في الدفع باتجاه الاستقرار وتجاوز الأزمات في هذين البلدين. وقد بذل الخليجيون منذ عام 2011 جهودا جبّارة باليمن، لكنّ تلك الجهود تعرضت لانتكاسة خطيرة في الشهور الخمسة الأخيرة. لقد أظهر هذا البلد هشاشة كبرى في وجه التحديات الداخلية والخارجية، بحيث أمكن لمجموعة مسلحة صغيرة أن تستولي على مساحات شاسعة من الجزء الشمالي من البلاد، وسط استسلام الرئيس والجيش أو حيادهما أو حتى قتالهما إلى جانب المتمردين في بعض المواقع بحجة مقاتلة «القاعدة»!
وإذا كان الرئيس اليمني السابق يتحمل مسؤولية كبرى عن هذه الفوضى المتجهة إلى الحرب الأهلية؛ فإنّ بقية الأطراف السياسية لا تقل عنه مسؤولية بالتقاعس أو التخاذل أو التآمر. وإذا كانت إيران ضالعةً كالعادة في تفكيك المجتمع والدولة باليمن؛ فإن الولايات المتحدة ضالعةٌ أيضا بتقديمها مقاتلة «القاعدة» على كل اعتبار. إن التمرد الحوثي جعل لأول مرة لـ«القاعدة» وظائف داخلية، لأنها وسط غياب الجيش والأمن أو تآمُرهما، صارت هي الطرف المسلَّح الذي يواجه تمدُّد الحوثيين بعد أن عجزت القبائل في وسط اليمن عن التصدي لهم بمفردها. وهكذا تبقى كل مدينة وبلدة ساكنة منكمشة بانتظار وصول الحوثيين إليها للقتل والإخضاع. وهذا هو الواقع الآن، فضلا عن تهديد أمن دول الخليج لناحيتي البر والبحر.
ماذا تستطيع دول الخليج أن تفعل؟ تستطيع أن ترمي بثقلها من وراء المبادرة الخليجية من جديد، ودفْع الجيش والأمن لإخراج العصابات المسلحة من العاصمة وإب والحديدة والآن من تعز ووسط اليمن. ولا بد من مبادرة تجاه الجنوب أو تتحالف أجزاء معتبرةٌ منه مع المتطرفين لحماية النفس. ثم لا بد من القوة البحرية المشتركة لحماية باب المندب وبحر العرب والبحر الأحمر، لاتصال ذلك بأمن الخليج وأمن مصر. وإذا كان واضحا ما يفعله الإيرانيون، فما الذي يفعلُهُ الأميركيون الذين يتجهون بزعم مكافحة الإرهاب للتحالُف مع إيران ضد الشعوب العربية والدول العربية في العراق وسوريا واليمن وربما في أماكن أخرى؟! وإذا كانت جهود الخليجيين باليمن قد لقيت انتكاسة بارزة؛ فإن ما يجب قوله أن القوى السياسية اليمنية مهدَّدة جميعا بأفظع مما تهدَّد «حزب الله» لبنان، وعليها أن تتوحَّد وتتعاون في ما بينها ومع دول الخليج لإنقاذ بلدها أو ينطبق عليها قول صاحب كليلة ودمنة: «قُتلتُ يومَ قُتل الثورُ الأبيض»!
وتبدو ليبيا بعيدةً نسبيا، لكنها بحسب مبعوث الأمم المتحدة تكاد تصلُ إلى حالة اللادولة. وهي حالةٌ تهدد شعبها بالطبع، لكنها تهدد أيضا مصر وتونس والجزائر. وهي منطقة أمنية وجغرافيةٌ واحدة، لكنها عجزت حتى الآن عن التعاون الجاد لإنقاذ ليبيا وإنقاذ أمْنها هي. ويستطيع الخليجيون التعاوُنَ مع مصر، ومع قوى الشرعية بالداخل، ليس للوصول لحلّ سياسي ما عاد ممكنا الآن؛ بل لمحاصرة المتطرفين والميليشيات وتوجيه ضربات لهم بحيث يقبلون الجلوس إلى طاولة المفاوضات الوطنية. لقد تخاذل الأوروبيون مع أنّ أمن ليبيا جزء من أمن المتوسط، ولا بد من سبيل لكسب اهتمامهم الذي تعذر كسْبه حتى الآن!
ومن المضحك والساخر لكنه من الصحيح أن يقال إنّ «داعش» أعاد العرب جزئيا إلى العراق. ورغم توقف الهجوم الداعشي على معظم الجبهات بالعراق؛ فإنه من السابق لأوانه نشر البشارة التي حملها الرئيس أوباما بشأن خلاص العراق. فالخلاص من «داعش» لا يزال بعيدا، وما أمكن أخذ تكريت فكيف بالموصل؟ والخلاص من التخريب الإيراني وحلفائه بالداخل أبعد، خاصة أنّ أوباما لا يزال يراهن على إيران، ويتحدث وحسْب عن دعم العشائر هو والحكومة العراقية!
بيد أن المصيبة الأكبر بالمنطقة لا تزالُ واقعةً في سوريا. فالحديث عن إدارة «داعش» للتوحش لا يُنسي ولا يخفي الوحش الأسطوري الآخَر. وقد بذل الخليجيون – والحق يقال – جهودا في سوريا ربما كانت أكبر من جهودهم باليمن. لكنّ شيئا من ذلك لم يؤت أُكُلَه: لاختلاف مواقف الدول العربية، ولاستناد النظام إلى روسيا وإيران وميليشياتها المنتشرة في كل مكان، ولهشاشة الثوار السوريين سياسيين ومقاتلين، ولصعود التطرف في صفوفهم من «داعش» إلى «النُصرة»، ولتردد أوباما ثم صيرورته بل بقائه عند التعاوُن مع روسيا وإيران وحتى مع الأسد بعد ظهور «داعش»! لقد كسب العربُ نقطةً أخيرا بالمشاركة في محاربة «داعش». لكنّ هذه النقطة لا تجد مصداقا لها حتى الآن على الأرض، حتى في ما صار يُعرف بالحلّ السياسي. وبالأمس سمعنا حديثا من جانب النظام السوري عن حلٍ سياسي يقوده الروس والإيرانيون، وقد ينضم إليه العربُ لاحقا! والأمل في قمة الدوحة أن يقول الخليجيون شيئا واضحا عن محاذير ما يمكن أن يحصل أو يبقى بالعراق، وعن ضرورة ذهاب بشار الأسد، وعن ضرورة انتخاب رئيس بلبنان، وحمايته من تداعيات الحرب في سوريا.
وتبقى المشكلة الأعمق والأعرق، وهي المشكلة الفلسطينية. فقد تفاقم الوضع إلى حدود غير معقولة، وصار الأقصى مهدَّدا بالفعل مع الاستمرار في تهويد القدس، ونفي حقوق المواطنة عن العرب في الكيان الصهيوني. ويستطيع الخليجيون والعرب الآخرون دعم خطوات محمود عباس باتجاه الأمم المتحدة، والتدخل بقوةٍ لفرض إنهاء النزاع المدمِّر بين فتح وحماس. لكنهم يستطيعون أيضا رفع درجات الدعم والنشر والاتصال والضغط من وراء المبادرة العربية للسلام. لقد نادى بها الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة ببيروت عام 2002 وصارت مبادرةً عربية. لكنها أُهملت في إدارة بوش، وصنع أوباما مبادرته الخاصّة التي فشلت رغم طول مدة انطلاقها وامتدادها. وهذا الأمر شديد الأهمية الآن، وسط الآفاق المظلمة المحيطة بفلسطين، وبالأوضاع العربية.
إن الضغوط على مجلس التعاون الخليجي هائلة، وقد كانت من حوله، ثم هدَّدت بالانتقال إلى داخله. لكنّ دائرة الاستقرار العربي هذه قاومت وازدادت صلابة. والأملُ أن تكون قمة الدوحة بهذه المناسبة عملا جادا على لأْم الجراح العربية، وصنع الغد الأفضل.