مهما قيل في طبيعة المهمة التي جاء من أجلها الموفد الفرنسي بيار دوكان الى بيروت، يبقى العنوان العريض المتوافق عليه، مرتبطاً بالدعوة الى ضرورة البدء في تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» قبل فوات الاوان.
لم تكن زيارة الموفد الفرنسي، المكلف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» الى بيروت مفاجئة. وقد سبقت الزيارة مشاورات بين بيروت وباريس جرت قبل فترة، وتقرر على اثرها مجيء بيار دوكان الى لبنان.
لم يحمل دوكان رسالة محدّدة، لكن طبيعة محادثاته في بيروت ركّزت على ضرورة الاسراع في تشكيل الحكومة، للتمكّن من بدء تنفيذ مقررات «سيدر».
لكن اللافت في طلب التسريع انه ليس مرتبطاً بالقلق من احتمال تراجُع الدول المانحة عن تعهداتها المالية، وبالتالي ضياع فرصة الحصول على القروض الميسّرة التي تقررت في المؤتمر، بل في عدم قدرة لبنان على الصمود طويلاً، بانتظار بدء التنفيذ. وهذا الامر واضح من خلال تأكيد دوكان نفسه ان الدول لن تسحب تعهداتها بمساعدة لبنان بسبب مرور الوقت.
صحيح أن دوكان اطّلع على ما تمّ انجازه من قوانين في المجلس النيابي، تصبّ في خانة التحضير لتنفيذ مقررات «سيدر»، كما اطّلع على ما تمّ تحضيره من قبل فريق العمل الاقتصادي لرئيس الحكومة سعد الحريري، وكان مرتاحا لهذه التحضيرات، لكن الصحيح ايضا ان الموفد الفرنسي لم يستطع ان يفهم طبيعة التعقيدات التي تفرضها السلطات اللبنانية على نفسها للحصول على المساعدات. وقد بدا غريباً ان تكون الدول استغرقت شهرا واحدا للاتفاق على منح لبنان اكثر من 11 مليار دولار لمشاريع بنيوية متلازمة مع الاصلاح، وان يكون لبنان وافق على تلقيها، لكنه يحتاج سنوات لانجاز آلية هذه الموافقة للبدء في الافادة من الاموال!
في موازاة هذا الوضع الشاذ الذي حاول دوكان حثّ السلطات اللبنانية على تجاوزه، خصوصا انها سبق وتعهدت بذلك في مؤتمر «سيدر»، تبرز مسألة الاصلاحات، ومن ضمنها تعهّد الحكومة اللبنانية بالعمل على خفض العجز في الموازنة، من خلال تكبير الناتج المحلي، وترشيد الانفاق لتقليص الهوة بين الايرادات والمصاريف. ويدرك دوكان، وهو الخبير في هذا المجال، ان المنحى الذي تسلكه التطورات المالية والاقتصادية لا يوحي بقدرة الدولة اللبنانية على الوفاء بالتزام خفض العجز، بل العكس صحيح. وهو يعرف طبيعة التعقيدات التي بلغتها المالية العامة للدولة. وبالمناسبة، فان الموفد الفرنسي يحمل اجازة عليا في العلوم الاقتصادية، وهو متخصّص في الشؤون المالية العامة، وتولى مواقع حسّاسة في ادارة مالية الدولة في فرنسا، كما انه متخصّص في الشؤون المصرفية والنقدية.
وقد مارس مهاماً رفيعة في معهد النقد الاوروبي، كما تولى لفترة 5 سنوات مهام رئاسة لجنة الرقابة الحسابية في البنك الدولي. وبالتالي، يعرف الرجل الامور المالية على حقيقتها، ولا تنفع معه مساحيق التجميل التي تحاول السلطات اللبنانية تغليف الواقع المرير بها. وهو يدرك ان عجز الموازنة في 2018، لن يكون كما قدّمته الحكومة اللبنانية في «سيدر»، وان هذا العجز قد يرتفع بنسبة 25% عمّا هو وارد في المشروع الاساسي. كذلك، يعرف ان حجم العجز في موازنة 2019، هذا اذا تمّ إقرار هذه الموازنة سيرتفع ايضا بالنسبة نفسها عمّا كان عليه في 2018. وبالتالي، يدرك دوكان ان الحكومة بالطريقة التي تمضي فيها، لن تكون عاجزة عن الالتزام بوعدها في خفض العجز تدريجياً فحسب، بل ان العجز سيرتفع وفق الهرم المقلوب، وبوتيرة متسارعة اكثر فأكثر. وهناك من يقدّر العجز الحقيقي في 2019، بموازنة أو بلا موازنة، بما يقارب الـ9 مليار دولار.
الى جانب هذا الواقع، يشعر دوكان بخيبة أمل كبيرة حيال موضوع الكهرباء. وهو سبق له ان قال في لقاء في باريس انعقد في حزيران 2018، انه من دون اصلاح الكهرباء، لن يتم تنفيذ «سيدر». وقد سمع الرجل كلاما ونصائح من رجال اعمال لبنانيين للتركيز على الكهرباء اكثر من التركيز على نظام التقاعد او تصغير حجم القطاع العام او حتى معالجة التهرّب الضريبي، لأن كل هذه الملفات شائكة، وقد تفشل بسبب الاحتكاكات المتوقعة بين السلطة والناس، وبسبب حسابات ومصالح السياسيين. في حين ان ملف الكهرباء يمكن انجازه بسرعة. ومن هنا، وجّه دوكان رسالته الى السلطات اللبنانية، انجزوا ملف الكهرباء 24 ساعة، ووفروا على الخزينة فورا مليارين و250 مليون دولار متوقعة في العام 2019. وهنا، لا بد من التكرار انه مهما كانت كلفة تأمين الكهرباء 24 ساعة بسرعة قياسية من خلال المعامل العائمة او الاستجرار باهظة، وفيها ربما سمسرات ضخمة، تبقى في النتيجة مُربحة في مقياس الوفر المالي الذي سيتحقق جراء رفع التعرفة والغاء المولدات. اذ ستكون الخزينة رابحة، وكذلك المواطن الذي سيتخلص من ضغط الفاتورتين. طبعا، مع الاشارة الى ضرورة تنفيذ خطة المعامل الثابتة لتحلّ تدريجيا مكان المعامل المؤقتة، او الاستجرار من بلدان أخرى.
في النتيجة، دوكان ماشَى التوجهات الرسمية اللبنانية وتحاشى توصيف الوضع المالي والاقتصادي امام الاعلام بأنه كارثي، واكتفى بالقول ان الوضع طارئ. وفي حالات اعلان الطوارئ، هناك اجراءات استثنائية يتمّ اتخاذها، وهذا ما تدعو اليه فرنسا تحديداً، بتوجيهات من رئيسها ايمانويل ماكرون، الذي يبدو مع الاسف أشد حرصاً وقلقا على الوضع اللبناني، من السلطات اللبنانية نفسها.