عام 1983 سحبت منظمة التحرير الفلسطينية أموالها من لبنان تسبّب الأمر في زعزعة استقرار الليرة اللبنانيّة وبداية الجزء الأوّل من السيناريو الذي نشاهده اليوم، حتى الحرب اللبنانيّة لم تؤثّر على سعر صرف الليرة مقابل الدولار على العكس حافظت الليرة على مناعتها في وجه الدولار وظلّ سعر الصرف ليرتيْن ونصف الليرة، بدء الارتفاع رويداً رويداً والمحظوظون يومها وجدوا من يهمس في آذانهم أن يبدّلوا مدّخراهم إلى الدولار، وفي غفلة من المأساة التي تتكرر اليوم وجد اللبنانيّون رواتبهم تنهار بعدما فقدت الليرة قيمتها تحوّل الجميع إلى تجّار عملة، المصارف والصيارفة واللبنانيّون الشاطرون الذين تشاطروا على اللعبة فانتهت بهم بإطلاق رصاصة على رؤوسهم أو الذهاب ضحايا أزمة قلبيّة حادّة بسبب الخسارة، ويتذكّر اللبنانيون جيداً إسم روجيه تمرز وبنك المشرق.
نفس السيناريو تمّت استعادته بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، بلد خارجٌ من دمار كبير وحالة إفلاس تتالت الحكومات التي لم تكن تملك خططاً للنهوض بالبلد الخارج «من قلب الدمار»، كان الاحتلال السوري الذي حلّت بالأمس اللاعب الأقوى على الساحة اللبنانية، وهو نفسه أدرك أن الانفجار الاجتماعي قادم لا محالة إن لم يكن هناك شخصيّة تحظى بثقة دول العالم معروفة وتملك سمعة ناجحة، وكان الحديث في العام 1991 متأججاً عن حرب ضد العراق والتحضير لها جار على قدم وساق وبدأت لعبة زعزعة استقرار الليرة اللبنانية أمام سعر صرف الدولار مع تسليم لبنان رسميّاً للاحتلال السوري مقابل مئة جندي يشاركون رمزياً في حرب عاصفة الصحراء ليُقال أنّ هناك «إجماع عربي» على هذه الحرب، فشلت حكومة الراحل عمر كرامي في إيجاد حلول وخطة إقتصادية للنهوض بالبلاد ودخل الدولار في رحلة ارتفاع جنوني للمرة الثانية تسببت بها سلسلة رتب ورواتب لدولة عاجزة عن تمويلها تماماً كالسلسلة التي فرض إقرارها بالإكراه وتم التضحية بميزانية الدولة وخزينتها من أجل الأصوات الانتخابيّة!
في العام 1992 أي قبل ثمانية وعشرين عاماً بلغ سعر صرف الدولار 3000 ليرة لبنانيّة، لذا من القليل أن يصل بعد ثلاثة عقود ارتفاعه إلى أربعة آلاف، لم تكن الحكاية يومها فقط فشل حكومة كرامي في إيجاد حلول في وجه تحوّلات المنطقة ومشهد الدّمار الذي يخيّم على البلاد، وحال الرئيس الراحل عمر كرامي أفضل بكثير من حال الرئيس حسان دياب اليوم، على الأقل الأوّل صحيح لم يكن له وزن دوليّ وليس صاحب اختصاص إقتصادي وجاء به السوريون رئيساً للحكومة لكنّه كان جزءاً من اللعبة السياسية باعتباره وريث بيت سياسي، وكانت المنطقة تتحضر لانعقاد مائدة الخداع الأميركي ـ الإسرائيلي في مدريد عام 1993، والسوري كان محتاجاً لمن يريح رأسه من همّ الشارع اللبناني الذي يلعب الجميع فيه لعبة العبث بتجارة الدولار بمن فيهم السوري وجهاز مخابراته نفسه فجُمعت ثروات من دماء اللبنانيين ومدخراتهم للمرة الثانية، وللمناسبة لم ينزل اللبنانيون إلى الشارع يومها، الذين نزلوا الاتحاد العمالي وميليشيات حلفاء سوريا الكبار وأصغر الصغار، الاتحاد العمالي حاضر دائماً لتلبية الأوامر المخابراتية لسوريا أو لحزب الله فينزل إلى الشارع مقدّمة لأمر ما تماماً كما فعل في 5 أيار العام 2007 تمهيداً لانقلاب حزب الله الأول الفاشل في 7 أيار العام 2008!!
يوم جاء رفيق الحريري رئيساً لحكومة لبنان عام 1993 برغبة سورية وشخصيّة، جاء حاملاً عنواناً إسمه «الخطّة الخمسيّة» يومها وعد اللبنانيّين بقدوم الربيع إلا أنّ الربيع تأخر وظلّت أحوال اللبنانيين سيئة جداً، تمّ تثبيت سعر صرف الدولار على 1500 ليرة وتحمّل المصرف المركزي عبء دفع تكاليف هذا التثبيت، كلّ اللبنانيّين كانوا يعرفون أنّ هذا السعر 1500 ليرة سعراً وهميّاً، وأنّ القيمة الحقيقيّة لصرف الدولار تقارب ثلاثة آلاف ليرة وذهب البعض إلى اعتبارها في بعض الأحيان خمسة آلاف ليرة، وباقي مشوار تركيب الدّين على الدّين حكايته معروفة، حقيبة السامسونايت تلك المكتوب عليها الخطّة الخمسيّة «تفركشت» حسابات حقلها لم تطابق حسابات بضعة أمتار بحيرة طبريا كان المفاوض السوري يجلس على حافتها ويضع قدميه في البحيرة، عام 1996 اغتيل إسحاق رابين، انهارت مخططات الأرض مقابل السلام، وكان لبنان يعيش ركوداً إقتصاديّاً مخيفاً، ولا يزال الوضع يتفاقم وفوائد الدّين كسرت ظهر اللبنانيين!
السيناريو يعاداليوم للمرة الثالثة، سمع رئيس حكومة حزب الله أحد المحللين الاقتصاديين يقول أن سعر صرف الدولار قد يبلغ عشرين ألف ليرة، فأبلغنا أنّه ليس عمر كرامي وأنه لن يستقيل حتى لو بلغ سعر صرف الدولار عشرين ألف ليرة، ألم نقل لكم أننا أمام نموذج غير مسبوق من رؤساء الحكومات، لم أحبّ سياسة ومواقف عمر كرامي يوماً ولكن الشهادة لله كان رجلاً صاحب إحساس كرامته غالية عليه، ألم نقل لكم أننا أمام نموذجٍ لم يكن يحلم يوماً بالدخول مرة ثانية إلى السراي الحكومي كوزير، فكيف بالجلوس على كرسي رئيس الحكومي «خليه يقعد» لو دامت لغيره ما اتصلت إليه، أمّا الدولار، فأمامه قفزة جديدة إلى سعر صرف خمسة آلاف ليرة، ألا يدور الحديث منذ العام الماضي عن تحرير سعر صرف الليرة، أليس هذا واحداً من مطالب صندوق النقد الدولي؟ حسناً، لقد تمّ تحريره، أمّا «خازوق» خسارة اللبنانيين لمدخراتهم ومستحقات تقاعدهم وانهيار قيمة رواتبهم فاللبنانيون اعتادوا على هذا النوع من الخسارات وهي لم تدفعهم يوماً إلى الشارع؟!