حلول وتدابير لعقلنة الأسعار والحفاظ على القدرة الشرائية
الخشية اليوم من أن يكون دعم المواد الغذائية على حساب الجودة ومستوى المعيشة
دفع انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية إلى “تسونامي” أسعارٍ اجتاح السلع المستوردة والمحلية على حد سواء. تراجع الليرة أمام الدولار من 1500 إلى حدود 4500 (السعر الذي يسلم به الكثير من التجار السلع لزبائنهم) أفقد القدرة الشرائية لليرة اللبنانية أكثر من 266 في المئة من قيمتها. خسارة قلصت استهلاك المواطنين وأعجزت التجار والبائعين، وأصبحت تهدد باقفال المؤسسات التجارية وتشريد آلاف العمال. فهل من حلول؟
ردة الفعل الاولية في تسعير السلع بعد “صدمة” الدولار قد تكون عفوية في الكثير من نقاط البيع، إلا انها يجب ان لا تستمر. فقسمة السعر بالليرة اللبنانية على 1500 ومن ثم ضربه بـ 4000 هي عملية خاطئة ولا تمت إلى حقيقة التسعير بصلة. ولتوضيح المسألة وتبسيطها فلنفترض ان سلعة ما تباع في المحال بقيمة 1500 ليرة أو ما يعادل 1 دولار، تحولت اليوم تلقائياً إلى 4000 ليرة بحجة انخفاض سعر الصرف، وهنا مكمن الخطأ. فتغير سعر الصرف يجب ان يلحق سعر السلعة المستوردة من الخارج ومصاريف الشحن والتي من المفروض ان لا تتجاوز 50 في المئة من قيمتها أي 50 سنتاً، أما في ما خص بقية العناصر التي تدخل في تركيبة السعر مثل مصاريف الشركة اللبنانية وربحها وأجور عمالها وأكلاف النقل وإيجار المستودع ونفقات الماء والكهرباء فيجب ان تحتسب بالليرة اللبنانية. وعليه فان سعر السلعة المستوردة التي كانت تباع بـ 1500 ليرة يجب ان يصبح بحده الاقصى 2750 ليرة، وليس 4 آلاف ليرة، وذلك بعد ضرب 50 سنتً بـ 4 آلاف واضافة مبلغ 750 ليرة الباقية على السعر.
دولار مدعوم للغذاء
ضرورة عقلنة الاسعار وتشديد الرقابة، تحديداً على التجار والمستوردين، يترافق اليوم مع خطوة أخرى سيباشر فيها مصرف لبنان من أجل دعم دولار استيراد المواد الغذائية، حيث من المتوقع ان يتحدد سعر الصرف للتجار عند الصرافين على 2600 ليرة بدلاً من 4000. تأمين الدولار المدعوم لفاتورة الغذاء التي تقدر سنوياً بين 500 مليون والمليار دولار لن يكون من الاحتياطي الالزامي البالغ 22 ملياراً، بل من المبالغ المتأتية من التحويلات الاكترونية.
الخطوة المعلومة لا تزال بالنسبة إلى كبار المستوردين وتجار الجملة مجهولة، فبالاضافة إلى عدم مشاورتهم وأخذ ملاحظاتهم الضرورية لانجاح هذه المبادرة لكي لا تتحول إلى “قمح 2″، لم يبلغوا بعد رسمياً بأي اجراءات جديدة، كما لم تحدد بعد السلع التي سيجري دعمها بانتظار رد “برنامج الغذاء العالمي” على السلع التي يجب ادراجها.
الدعم الجزئي فاشل
“في جميع الاحوال فان الخطوة مرحب بها”، يقول نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي. وهي تعتبر من وجهة نظره “أكثر من ضرورية للمحافظة على أمن المواطنين الغذائي، لكن بشرط المحافظة على جودة المواد المستوردة وتطبيق المبادرة بعدالة ومن دون استنسابية ومحسوبيات، والا فان نتائجها ستكون تضييع المزيد من الدولار واثراء بعض النافذين أو القريبين من مواقع القرار السياسي على حساب المواطنين وحقوقهم المعيشية”.
انطلاقاً من المثل القائل “لماذا تبرّد اللبن، لان الحليب كاويني”، تتعاظم مخاوف التجار من كل آليات الدعم والطريقة التي تدار بها. فالقمح المدعوم يذهب نصفه الى الكعك والخبز “الفرنجي” الذي يباع بـ “أغلا الغلا”. والنفط المدعوم يستفيد منه الثري واصحاب سيارات الـ ” 12 سيلندر” مثل سائق التاكسي، وفي جميع الاحوال فان نصفه يذهب الى سوريا. والدواء المدعوم يذهب قسم كبير منه على الفيتامينات وأدوية التنحيف وغيرها من المنتجات التي لا تعتبر اساسية للنجاة. فمن هنا مصدر الخوف من ان تنسحب هذه الطريقة على دعم بقية المواد الغذائية.
النقص الكبير من الدولار سيجعل المبالغ المخصصة للدعم أقل من الحاجة الفعلية في الاسواق. ولنأخذ “الرز” بوصفه سلعة أساسية لا يمكن زرعها محلياً مثالاً. يستورد لبنان نحو 60 الف طن من الرز سنوياً أو ما يعادل 4 آلاف طن شهرياً بسعر وسطي يبلغ 1000 دولار للطن، أي ان الكلفة الشهرية للرز ستكون 4 ملايين دولار شهرياً. الدعم الذي لن يتجاوز بأحسن التوقعات 50 في المئة أي 2 مليون دولار سيخلق اشكالية كبيرة بكيفية تحديد السعر في الاسواق ومَن هم التجار الذين سيأخذون الدولار المدعوم. من هنا “فان لم يكن الدعم مئة في المئة فانه لا مصلحة للتجار غير المحسوبين سياسياً أو المنتفعين من علاقات مع السلطة من القرار. كما ان المواطنين لن يستفيدوا في هذه الطريقة من الدعم لان الاسعار لن تنخفض”، يقول بحصلي.الدعم على حساب النوعية!
الخشية اليوم من ان يكون التوجه إلى اللعب بالنوعيات على حساب الجودة ومستوى المعيشة. ففي الحبوب هناك عشرات الاصناف التي تتدرج من النخب الاول مروراً بـ “الكسر”، ووصولاً الى تلك غير النظيفة المخلوطة مع البحص والحجارة الصغيرة. فان كان التوجه لدعم الاصناف الرديئة في ابسط السلع الاساسية، فهذا سيكون ضرباً لمستوى عيش اللبنانيين وانزالهم درجات كثيرة على سلم الرفاه وحقوق الانسان المكفولة في الأنظمة والتشريعات الدولية.
أي لبنان نريد؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يجب ان لا يغيب عن بالنا في نقاش الخطة الاقتصادية والتدابير المالية. البارحة حذر المصرفيون من تغيير وجهة لبنان الاقتصادية، واليوم يخشى التجار من ضرب مستوى المعيشة وارجاعنا عشرات السنوات الى الوراء، وفي الغد ستبرز ظواهر أكثر حدة تعاقب اللبنانيين على ذنب لم يقترفوه وتبرأ السلطة من فساد وسرقة ممنهجة استمرت لاعوام.