لا قعر ولا سقف… ولا شيء يلجم “الإنفلات” و”البلْف“
رقم قياسي جديد حقّقه سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي أول من أمس، حيث تجاوز الـ 2500 ليرة مقابل كل دولار. الرقم الذي كاد يلامس السقف الأعلى الذي وصلت إليه الليرة في آب 1992، حفر عميقاً في قدرة المواطنين الشرائية، وبدأ يُهدّد بانفجار اجتماعي وسياسي قد تبدو أحداث تسعينات القرن الماضي أمامه، نزهة.
“فليحرّروه ويريحونا”، يقولها أحد المتذمّرين من سياسة تقنين المصارف للدولار، في إشارة إلى تحرير سعر صرف العملة. فأصحاب الودائع بالدولار يُجبرون على الإستحصال على ودائعهم بالليرة اللبنانية على سعر صرف 1500 ل.ل. في حين أن السعر الحقيقي أصبح 2500 ليرة أو أكثر.
هذا الواقع يسبّب خسائر فادحة تتجاوز نسبتها الـ 60 في المئة لنحو 75 في المئة من المودعين في المصارف. فهم يخسرون أوّلاً فرق العملة في المصرف، وثانياً كلفة ارتفاع الأسعار التي فاقت الـ 40 في المئة على كثير من السلع والأصناف. وعليه فان تحرير سعر الصرف برأيهم يجنبهم الخسارة الأولى المتمثلة بالفرق بين السعر الرسمي والسعر الحقيقي في السوق الثانوية.
مخاطر “تفليت” سعر الصرف
يرى الكثيرون ان تحرير سعر الصرف سيخفض قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار إلى حدود 2500 ليرة أو 3000 كحد أقصى، فيما الحقيقة هي ان “تفليت سعر الصرف سيكون بمثابة هوة من دون قعر. أي ان لا أحد يمكن أن يتنبأ بالإنخفاض الذي ممكن ان يصله سعر الصرف”، يقول الكاتب في الشؤون الدولية والاقتصادية حسن خليل الذي لا يشجع على تحرير سعر الصرف. ويرى أن “بقاء سعر الصرف في السوق الثانوية عند حدود الـ 2500 ليرة أو أقل هو بسبب شح كمية الليرات الموجودة بين أيدي المواطنين. ولو أن المصرف المركزي لا يقنن الليرة، ويعطي المواطنين كل الكمية التي يطلبونها من العملة الوطنية لأصبح سعر الصرف أضعافاً مضاعفة عما هو عليه اليوم”.
لبنان كباقي دول العالم الثالث محكوم بأن تكون لعملته الوطنية عملة مرجعية من العملات الرئيسية، والتي منها وأهمها الدولار الأميركي، بسبب صغر حجم اقتصاده. فإذا نظرنا بموضوعية إلى الواقع الاقتصادي لوجدنا انه باستثناء رواتب القطاع العام والضرائب والرسوم وربع كمية الودائع في المصارف فإن كل النشاط الإقتصادي وما ترتبط به أجور القطاع الخاص إلى الصادرات والإستيراد والإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي وتحويلات المغتربين وانفاق السياح وغيره الكثير… قائم على الدولار الاميركي.
وبالتالي فإننا في المنطق الإقتصادي “لسنا بلداً مؤهلاً ان تكون له عملة مستقلة. وما الاصرار على الليرة وتثبيتها اصطناعياً امام الدولار لعقد ونيف من الزمن الا لاعتبارات وطنية ودلالة رمزية للسيادة والاستقلالية المادية والمعنوية عن باقي دول العالم. في حين ان تحديد سعر الصرف في الدول يكون انعكاساً لقدرة منتجاتها التنافسية، أما في لبنان فالعكس تماماً سيحدث في حال انفلات سعر الصرف نتيجة كل العوامل التي ذكرناها”، يضيف خليل.
“لعبة” الفوائد القاتلة
بالعودة الى تسعينيات القرن الماضي عندما قررت السلطة المالية بالتحالف مع السلطة السياسية تثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة، وتسويق مفهوم حماية الاستقرار وحماية القدرة الشرائية ومنع الاختلال الإجتماعي نتيجة هذه السياسة، رفعت الفوائد على الليرة بشكل جنوني وصل في بعض المراحل الى 40 في المئة وهو ما كبد الاقتصاد بحسب خليل حوالى “95 مليار دولار، منها ما يقدر بـ 45 ملياراً كان باستطاعتنا تجنبها”.
وبالتالي فإن “الحفاظ على رمزية الليرة يتطلّب اليوم تخفيض سعر صرفها وتثبيته عند الحد الذي يرونه مناسباً أياً يكن هذا الرقم، وأن يُتبع بإجراءات تصحيحية في الاجور من أجل ضمان عدم تدهور القدرة الشرائية، وتثبيت الفوائد على الليرة ايضاً على عكس المسرحية التي جرت مؤخراً والتي رغم هزالة إخراجها أتت متأخرة جداً ككل القرارات التي يجب اتخاذها للحد من الإنهيار”.
الاكيد ان سعر الصرف الحالي المحدد بـ 1500 ليرة لم يعد صالحاً، بل هو عملية “بلف” وسرقة واحتيال، ومن المفروض ان يصدر قرار جدي بتغيير سعر صرف الليرة مقابل الدولار يترافق مع “كابيتال كونترول” ومنع التحويل من الليرة الى الدولار وتعديل الرواتب والاجور بحيث لا تتأثر القوة الشرائية للمواطنين. توقّع تخفيض قيمة العملة او سعر الصرف رسمياً من 1500 ليرة الى 3000 ليرة لن يكون له أي اثر إيجابي حتى على الدين العام بالليرة اللبنانية المستحق على الدولة ومصرف لبنان.
فالدين بالليرة يقدر بنحو 78 مليار دولار مقسوم على الشكل التالي 66 ملياراً على الدولة و12 ملياراً على مصرف لبنان. من هنا فإن تخفيضاً بنسبة 50 في المئة من قيمة العملة من شأنه تخفيض الدين بحدود 40 مليار دولار. لكن هذا التخفيض يبقى نظرياً كون الدين بالليرة لا يشكل مشكلة فعلية للدولة في ظل قدرتها على طباعة العملة أو التأجيل. لبنان في “الولادة الجديدة” يجب ان يكون له برأي خليل “نظام صارم بغضّ النظر عن سعر الصرف مقابل الدولار سواء بقي 1500 ليرة او ارتفع الى 3000 او 5000. فالمهم ان يثبت هذا السعر في إطار الدولرة الشاملة أو ربط سعر صرف الليرة بسلة عملات لكي لا نكون عرضة للدولار فقط، وهذا ما يسمى مجلس النقد أو currency board”.
هذا الإقتراح كان سبق لحسن خليل ان طرحه على الرئيس الشهيد رفيق الحريري والشهيد باسل فليحان وبحضور مستشاره آنذاك نديم المنلا في العام 2000. لكن الرئيس الحريري لم يبدِ تجاوباً مع الإقتراح رغم إبداء الإيجابية من قِبل الوزير فليحان. أما سبب الرفض فكان عدم الرغبة في إخراج إدارة النقد من المركزي لانه عندها لا يعود يحق للحكومة في أي زمن ان تطبع عملة ما لم تكن هذه الكتلة مغطاة بكمية من الدولارات تدخل الى البلد. وبحسب خليل فإن هذه الطريقة “تُبقي على الليرة كرمز وطني لكنها في المقابل تمنع التضخم والانهيار المستقبلي والأهم انها تفرض على الدولة إلغاء العجز من الموازنة لانها لا تستطيع طباعة المال لتغطيته. هذا النموذج مطبق بنجاح في بنما التي يشبه اقتصادها اقتصادنا الى حد ما”.