الأسعار تواصل ارتفاعها رغم انخفاض سعر الصرف والاقتصاد يخسر تنافسيته
آلية التسعير تنفّر السيّاح والمغتربين الذين يحملون الدولار من التبضّع والشراء من لبنان
عادة ما تترافق الازمات الاقتصادية مع الفوضى. جميع البلدان التي عانت وتعاني من الانهيار سجلت سيطرة السوق السوداء، استفحال الاحتكارات وفوضى في الاسعار. لبنان لم يشذ عن هذه القاعدة ولم ينفع معه صغر حجمه ولا كل الاخبارات التي تصل إلى المعنيين عبر وسائل الاعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
زينة (46 عاماً) سيدة لبنانية مغتربة قررت قبل مغادرتها البلد على عجل بعد انفجار المرفأ التبضع من أحد مراكز التسوق المشهورة. فبالاضافة إلى الحس الوطني، فان الحادث الاخير ترك شعوراً عاماً لدى الجميع، بضرورة دعم القطاعات الانتاجية والتجارية اللبنانية لتعزيز صمودها والمحافظة على عمالها. إلا ان المفاجأة كانت بأن الأسعار في قسم العطورات وأدوات التجميل مضروبة بـ 5 مرات حتى لو كان الدفع بالدولار. “كنت أنتظر ان يكون ثمن السلعة المحددة بـ 100 دولار سابقاً هو 700 الف ليرة لبنانية، إلا انني لم أتوقع ان السعر سيكون 466 دولاراً بحجة ان دولارهم بـ 1500″، تقول زينة. “وعند مجابهتي أمين الصندوق باني سأدفع بالدولار وبأن كل 100 دولار تعادل 700 الف أو حتى أكثر، قال: فلتصرّفي المئة دولار في الخارج وعودي لتشتري بالليرة لكي لا تكوني مغبونة”.
المؤسسات لا تخالف القانون
“السعر النهائي الذي يعطى للمستهلك بحسب القانون يجب ان يكون بالليرة اللبنانية حصراً. وباستطاعة المواطن رفض الدفع بالعملة الاجنبية”، تقول المديرة العامة السابقة لوزارة الاقتصاد والتجارة عليا عباس. “أما في حال اختياره الدفع بالدولار، فان البائع مجبر على قسمة المبلغ المسعر بالليرة اللبنانية على 1515 ليرة أي سعر الصرف الرسمي”.
هذا الواقع وان كان صحيحاً من الناحية القانونية والمحاسبية فهو يشكل خطراً حقيقياً على الاقتصاد واستمرارية عمل المؤسسات. فأزمة استمرار تدهور سعر الصرف مستمرة ولن تنتهي قريباً. والسياح الذين أحجموا عن القدوم إلى لبنان بسبب الخضات السياسية والامنية وتفشي وباء “كورونا”، سيعودون إلى زيارة ربوعه في الاعوام المقبلة إذا انتفت تلك المسببات، وذلك للاستفادة من فرق العملة، وتحوله إلى بلد “رخيص” بسبب الازمة النقدية. لكن حتى هذه الفرصة لن نستفيد منها بتحريك العجلة الاقتصادية. فآلية التسعير تنفّر من يحمل الدولار من السياح والمغتربين من التبضع والشراء من لبنان. وتحديداً السلع الفاخرة والماركات العالمية التي قلما تتواجد خارج المؤسسات والمتاجر الكبيرة”.
الحل بالليرة
عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال لا ينفي ان “من يسعّر بالدولار سيواجه حتماً تراجعاً في المبيعات، لأن بضائعه سيكون ثمنها بالدولار اكبر من قيمتها الفعلية. لكن في المقابل فان الحل بسيط ويتمثل في التسعير والقبض بالليرة اللبنانية فقط”. وبرأي رمال فان “المؤسسات ملزمة باعتماد سعر الصرف الرسمي لان برامج التسعير والفوترة واحتساب الضرائب مبرمجة على هذا الأساس. ولم يتم بعد ايجاد الحل القانوني للفرق في القيمة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، وتحديداً بما يتعلق بضريبة الدخل والقيمة المضافة. لذلك تضطر المؤسسات التي تعتمد الشفافية على السير مرغمة في هذا النظام”.
رمال يعتبر ان هذه الاشكالية نستطيع تجاوزها والعيش معها، لكن ما لا نستطيع تحمله كقطاعات تجارية هو التردي في القدرة الشرائية عند المواطن اللبناني. فـ 90 في المئة من حجم المبيعات يعود للمستهلك المحلي الذي يتقاضى دخله بالليرة اللبنانية، وذلك بعد فقداننا السائح والمغترب منذ حوالى العامين. ومع انهيار قيمة العملة أصبح المستهلك عاجزاً عن الشراء. وهذا ما دفع الكثير من المؤسسات إلى الاقفال وصرف العمال.
فوضى التسعير
إذا كانت المشكلة في آلية تسعير بعض السلع “الكمالية” تنحصر بالميسورين أو اصحاب الدخول المرتفعة، فان عباس تسلط الضوء على مشكلة اكبر وأخطر تطال كل اللبنانيين وتحديداً الفقراء منهم. ومن وجهة نظرها فان “الكثير من السلع التي رُفع سعرها اضعافاً مضاعفة عندما لامس سعر الصرف 10 آلاف ليرة، لم تشهد أي انخفاض اليوم مع تراجع الدولار بأكثر من 3 آلاف ليرة. بل على العكس فان جولة على المتاجر تظهر ان الاسعار تستمر في الارتفاع بشكل اسبوعي على الرغم من استقرار سعر الصرف منذ فترة على معدل وسطي يقدر بـ 7 آلاف ليرة”.من المسؤول؟
أليست وزارة الاقتصاد والمديرية العامة لحماية المستهلك؟
“هي المسؤولة طبعاً”، تقول عباس. “إنما المشكلة تتلخص في عدم تشريع العقوبات الفورية على المخالفين. فتسطير المخالفات ومحاضر الضبط وارسالها إلى القضاء وانتظار الحكم يأخذ وقتاً طويلاً، واحياناً كثيرة تسقط الدعاوى بمرور الزمن. وهو ما يشكل عنصر اطمئنان للمخالفين، ويشجعهم على الاستمرار في تجاوز القوانين وعدم احترامها”.
وزارة الاقتصاد كانت قد تقدمت بمشروع قانون يجيز التغريم الفوري من دون العودة إلى القضاء قبل مدة طويلة. “إلا ان هذا المشروع جرى التصدي له من قبل القضاة بعد تحويله إلى لجنة الادارة والعدل في مجلس النواب لانه يحد من صلاحياتهم”، تقول عباس. “فيما كان الحل المنطقي والسليم هو قيام الوزارة بدورها، والابقاء على حق الاعتراض عند القضاء”.
الملف أعيد تحريكه أيام الوزير منصور بطيش، كما جرى إدخال تعديلات عليه وتحديثه مع وزير الاقتصاد في الحكومة المستقيلة راوول نعمة بعد اكتشاف بعض الثغرات. إلا ان استقالة الحكومة سبقت وصول الملف إلى طاولتها والبت به.
كغيره من البلدان المصابة بانهيار العملة يتحول لبنان إلى الاقتصاد النقديcash economy. البطاقات المصرفية سواء كانت دائنة ام مدينة لم تعد صالحة للدفع حتى ولو كانت بالدولار. وهو الامر الذي لا يحرم الاقتصاد من الازدهار والتطور فحسب بل من ملايين الدولارات التي يحملها معهم السياح والمغتربون في بطاقاتهم المصرفية ويفضلون الدفع بواسطتها.