IMLebanon

هل تكون الإنتفاضة الثالثة ثابتة؟

 

 

المسألة الأساسية التي يجب ان يتمحور حولها النقاش في الذكرى الـ16 لانتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005، هي في كيفية توحيد هذه الساحة مع ساحة 17 تشرين 2019، لأنّه من دون هذه الوحدة، 8 آذار «هم الغالبون»!

لو نجحت 14 آذار في «العبور إلى الدولة» لما ولدت 17 تشرين، وعدم نجاح الأخيرة سيولّد عاجلاً أم آجلاً انتفاضة جديدة. فالمكابرة لا تفيد، وما يفيد هو الإقرار بالوقائع كما هي، من أجل الانطلاق منها والتأسيس عليها، وهذه الوقائع هي على الشكل الآتي:

 

أولاً، انتفاضة الاستقلال هي انتفاضة مسّيسة بامتياز بأهدافها وعناوينها وشعاراتها، فيما انتفاضة 17 تشرين يغلُب عليها الطابع الاجتماعي والمعيشي ونمط العيش وإدارة الدولة. فمنسوب السياسي في الثانية منخفض، مقارنة مع الأولى، ولكن المشترك بينهما هو «العبور إلى الدولة» أكان سيادياً وفق الأولى أو إصلاحياً وفق الثانية.

 

ثانياً، الأهداف التي حققتها الانتفاضة الأولى لا تُقارن بالثانية التي بقيت متواضعة: وحدة مسيحية – إسلامية كانت مغيّبة منذ عشية الحرب الأهلية، إخراج الجيش السوري من لبنان، الفوز في الانتخابات النيابية، ترؤس حكومات الطابع الغالب فيها سيادي، وإقرار المحكمة الدولية، فيما أعادت انتفاضة 17 تشرين تظهير وحدة الموقف بين اللبنانيين في مشهدية رائعة، ودفعت الرئيس سعد الحريري إلى الاستقالة، وأسقطت مفهوم حكومات الوحدة الوطنية، ولكنها فشلت في فرض تشكيل حكومات اختصاصيين مستقلّين، ولم تنجح في الضغط لتقصير ولاية مجلس النواب، إنما نجحت في إظهار وجود نقمة شعبية على القوى السياسية وتحديداً الفريق الحاكم.

 

ثالثاً، لم تُحسن 14 آذار إدارة مواجهتها مع 8 آذار، ولم تُحسن إدارتها للدولة، فلم يشعر المواطن بتبدل في الممارسة، بين ما قبل الخروج السوري وما بعده، ولم تُحسن في إدارة صفوفها بالوصول إلى جبهة تُسقط التمايزات بينها. فيما لم تُحسن انتفاضة 17 تشرين توحيد شعاراتها ولا صفوفها، ولم تُحسن إدارة مواجهتها، رافعةً شعار «كلن يعني كلن»، مساوية بين الصالح والطالح، ولم تُحسن تقدير وزنها وحجمها ودورها، معتقدةً انّها منفردة بإمكانها الوصول إلى الدولة المنشودة.

 

رابعاً، أظهرت انتفاضة 14 آذار انّ المزاوجة بين الأحزاب والرأي العام قادرة على تحقيق الإنجازات والأهداف، فيما انتفاضة 17 تشرين، التي أصرّت على استبعاد الأحزاب، بقيت إنجازاتها متواضعة جداً. وإذا كانت قد أخطأت الأولى في عدم إشراك الرأي العام بالشكل المطلوب في رسم أطر المواجهة، فإنّ الثانية أخطأت بدورها في عدم صياغة التفاهمات المطلوبة مع الأحزاب التي تتشابه معها. فشعب من دون قيادة لا يستطيع إيصال البلد إلى شاطئ الأمان، وشعار «كلن يعني كلن» أثبت محدودية تأثيره، واي ثورة بحاجة أساساً لقيادة وشعب، فلا يمكن تحقيق أي هدف من دون قيادة.

 

خامساً، طالما انّ الأمور تُقاس في خواتيمها، فإنّ 14 آذار، وعلى رغم الإنجازات الكبرى التي حققتها، لم تنجح في «العبور إلى الدولة»، كما لم تنجح 17 تشرين، على رغم الإنجازات المتواضعة التي حققتها، في تحقيق العبور نفسه، ما يعني انّ المطلوب الوصول إلى انتفاضة جديدة تزاوج بين 14 آذار و17 تشرين، فهل هذا ممكن؟

 

ومن المفهوم تماماً، الكلام عن استمرار النضال تحقيقاً لأهداف 14 آذار، خصوصاً انّ هذه الأهداف لها علاقة بشكل لبنان المتعارف عليه منذ الاستقلال الأول. ومن المفهوم تماماً أيضاً، التمييز بين زوال الجسم الإداري لانتفاضة الاستقلال، واستمرار روحية الانتفاضة. ولكن هذه الأهداف غير قابلة للتحقق من دون جسم تنظيمي، ولا مؤشرات حالياً إلى انّ إحياء الجسم السابق وارد، ما يعني انّ الأهداف ستبقى معلّقة بانتظار جبهة جديدة قادرة على حمل الأهداف نفسها.

 

ومن الضروري ان تستمر التحرّكات الاحتجاحية في الشارع رفضاً للأمر الواقع القائم، المفروض من قِبل فريق حاكم أوصل البلد إلى الانهيار وبدّل في وجه لبنان الاقتصادي ونمط عيش اللبنانيين. ولكن يجب الإقرار انّ ما حققته انتفاضة 17 تشرين قد حققته، وأنّها غير قادرة على تحقيق المزيد، رغم تحليق الدولار والأسعار وتسارع وتيرة الانهيار ومواصلة الفريق الحاكم السياسة نفسها، وبالتالي هي عاجزة عن فرض تأليف حكومة، وعن فرض انتخابات مبكرة، وعن الدفع الى عقد مؤتمر دولي، والمكابرة على هذا المستوى مضرّة ولا تفيد القضية، فيما تظاهرة من هنا وتجمُّع من هناك لا يقدِّمان ولا يؤخّران في تغيير المشهد والتوازنات، وقد يقدِّمان فقط لدى بعض الأفراد الذين ينحصر اهتمامهم بإطلالات أشخاصهم، ويخشون على طموحاتهم في حال تمّ توسيع الدائرة.

 

وعلى قاعدة انّ المكتوب يُقرأ من عنوانه، فإنّ انتفاضة 17 تشرين قد انضمت إلى انتفاضة 14 آذار. ويُخطئ اي فريق في حال ظنّ انّ باستطاعته تحقيق مشروع الدولة منفرداً، فيما كل من يرفض مدّ اليد بحجج مختلفة، خلفياته واضحة، وهي تبدية مصلحته على مصلحة المشروع الإنقاذي، لأنّ دوره يكبر بقدر ما يصغر دور المشروع الجامع، والعكس صحيح. ومن شروط اي مشروع إنقاذي جديد ان يتضمن خريطة طريق مثلثة الأضلع:

الضلع الأول، الإتفاق على أهداف وطنية وسياسية واحدة وواضحة. فلا يجوز ان يكون الموضوع السيادي ثانوياً، لأنّ لا قيام لدولة من دون سيادة ناجزة، سلاح واحد وقرار واحد وخيار لبناني واحد وحياد، فلا ثورة من دون مانيفست سياسي.

 

الضلع الثاني، الإتفاق على إدارة شفافة للدولة تستظل الدستور والقوانين والمؤسسات، وقاعدتها الأساسية مكافحة الفساد وممارسة نظيفة، بعيدة كل البعد من المنطق الذي ساد منذ العام 1990 بسبب الانقلاب السوري على اتفاق الطائف.

 

الضلع الثالث، الإتفاق على إطار جبهوي مرن، يجمع تحت سقفه كل من يؤمن بالأهداف السيادية من دون مواربة ولا لف ولا دوران، ويؤمن بالممارسة الإصلاحية، والفصل بين المبادئ العامة، وبين التنافس السلطوي المشروع، الذي لا يجب بتاتاً ان يُضعف الجبهة ولا أهدافها السيادية والإصلاحية.

 

وما تقدّم لا يمكن تحقيقه، ويا للأسف، بالتهيئة والتحضير، إنما يستدعي صدمة وطنية مولِّدة لانتفاضة جديدة، تُطلق دينامية تغيير جارفة تُفضي إلى «العبور إلى الدولة» الذي لم تتمكن 14 آذار من تحقيقه ولا 17 تشرين. وبانتظار الحدث المولِّد للانتفاضة الجديدة تحقيقاً لهذا العبور، يجب الشروع في تهيئة الأرضية والمناخات المؤاتية، التي تبدأ من خلال ثلاثة اعترافات وإقرارات إلزامية: الاعتراف الأول بأّن لا انتفاضة 14 ولا 17 تشرين تمكنت من تحقيق الأهداف المنشودة. والاعتراف الثاني، بأنّه يستحيل تحقيق هذه الأهداف في حال لم تتوحّد ساحتي 14 و 17. والاعتراف الثالث، بأنّه من أجل تحقيق الأهداف المرجوة، يجب المزاوجة بين المشروع السياسي الذي يشكّل القاعدة الصلبة والجامعة، وبين القيادة السياسية الممثلة للأحزاب والرأي العام.

 

ولا بدّ من ان تكون البلاد أمام انتفاضة جديدة، لأنّ الناس لا تريد الحرب ولا الفوضى، وتسعى بكل قوتها للسلام والاستقرار، ولم تعد في وارد التساهل ولا السماح لقوى سياسية من حرمانها من العيش الكريم والهانئ، كأي شعب في أي دولة طبيعية في العالم. فهل تكون الانتفاضة الثالثة ثابتة وتنجح في «العبور إلى الدولة»؟