لا يمكن الحكم على الوضع المالي والاقتصادي من خلال ما هو سائد اليوم. في هذه الحقبة، هناك استقرار نقدي، ونشاط اقتصادي ملحوظ في اكثر من قطاع، بما قد يُرسل اشارات مُضلّلة حول حقيقة الوضع. وما ينتظر البلد في المرحلة المقبلة، قد يكون مغايراً لما هو قائم اليوم.
شكّل كلام حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري، الحدث الأبرز في الايام القليلة الماضية. فهل ينبغي ان يطمئن اللبنانيون حيال ما سمعوه من منصوري، ام العكس صحيح؟
ما قاله منصوري يمكن ان يُقسّم الى عنوانين عريضين:
أولاً – مصرف لبنان سيقوم بما ينصّ عليه القانون، ولن يتمّ المسّ بما تبقى من اموال المودعين في الاحتياطي الالزامي، ولن يتمّ إقراض أو تمويل الدولة من هذه الاموال تحت اي ظرف من الظروف.
ثانياً – ان الوضع على المدى المتوسط ليس مطمئناً، خصوصا في ما يتعلق بسعر صرف الليرة التي قد لا تبقى مستقرة في المرحلة المقبلة.
انطلاقاً من هذين العنوانين، يمكن تشريح موقف منصوري. من جهة، ينبغي ان يطمئن الناس الى ان النهج السابق الذي كان متّبعاً في مصرف لبنان قد توقف، وبالتالي، لن يتمّ تعميق الفجوة المالية وانفاق ما تبقى من حقوق الناس في المركزي. ومن جهة ثانية، من حق اللبنانيين ان يشعروا بالقلق، لأن كل الضغط الذي وضعه منصوري ونواب الحاكم على السلطة السياسية بشقيها التنفيذي والتشريعي، للبدء في اتخاذ الاجراءات المطلوبة للسير في اتجاه بدء خطة التعافي، والخروج من النفق، لم يتم تنفيذ أي منها حتى الآن. ولا توحي المؤشرات بأن ذلك سيحصل في الايام القليلة المقبلة.
واذا كان منصوري قلقاً حيال تمدُّد الاقتصاد النقدي (cash economy)، والتداعيات التي قد يؤدي اليها لاحقاً، يبدو رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي اكثر قلقاً من منصوري حيال هذا الموضوع. وينقل زوار ميقاتي عنه، انه يتحدث بشكل مستمر عن مخاطر استمرار هذا الوضع. ويكشف ميقاتي ان لبنان استورد حتى الان بنحو 16 مليار دولار، نصفها تقريبا بالدفع النقدي. اي ان المستورد يودع في المصرف المبلغ المطلوب نقداً، لفتح اعتماد وتسديد فاتورة الاستيراد.
ويتساءل ميقاتي امام زواره، ألا يعرف من لا يزال يعرقل إقرار القوانين انّ الغرب يراقب ما يجري على مستوى الاقتصاد النقدي بريبة. ورغم ان الدول الغربية المعنية لم تبادر الى اتخاذ اي اجراء في حق لبنان حتى الان، هل نستطيع ان نعرف متى تقرر هذه الدول شدّ الحبل، ومعاقبتنا؟ ألا يشكّل اجراء من هذا النوع كارثة اضافية في حق اللبنانيين؟ ألا يتحمّل من يعرقل الاجراءات المطلوبة للتخفيف من حجم الاقتصاد النقدي، والاتجاه نحو تطبيع الوضع المالي، مسؤولية ما قد يحصل على هذا الصعيد؟
وينقل زوار ميقاتي عنه أيضاً، انه غير مرتاح للتعديلات التي تمّ إدخالها على مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي أرسلته الحكومة الى المجلس النيابي، اذ شملت هذه التعديلات المسّ بالفريش دولار. وهذه نقطة خطيرة، كما يراها ميقاتي، وستحرم البلد من تدفّق الدولارات الفريش، اذ كيف سيُدخل اي مستثمر او مواطن دولارات الى القطاع المصرفي، اذا كان يعلم انه لن يسمح له بإخراجها. وما سيحصل في هذه الحالة، تشجيع بقاء الدولارات خارج المصارف، بما يعني توسيع سوق الاقتصاد النقدي بدلاً من تقليصه، وبالتالي زيادة المخاطر على البلد.
هذا القلق الذي يشعر به ميقاتي تقابله مخاوف مبرّرة حيال ما قد يحصل في الاشهر القليلة المقبلة. واذا اعتبرنا ان مصرف لبنان سيثبت على سياسته الحالية، واذا ما اعتبرنا ان السلطة لن تغيّر نهجها، ولن تكون هناك اجراءات اصلاحية في المرحلة المقبلة، كيف سيكون المشهد في هذه الحالة؟
من الواضح انّ وفرة الدولارات في هذه الحقبة، والناتجة عن ضخ الدولارات منذ منتصف آذار الماضي من قبل مصرف لبنان، لا سيما في شهر تموز حين تمّ ضخ كميات اضافية في السوق يقول البعض انها وصلت الى حوالى 400 مليون دولار، والناتجة كذلك عن الموسم السياحي الذي ساهم في زيادة المعروض من العملة الخضراء في السوق، كل ذلك سهّل ثبات سعر الصرف بعد تجميد العمل بـ»صيرفة». كما سمح لمصرف لبنان بجمع كمية من الدولارات لتأمين الاولويات التي تحدث عنها منصوري، (رواتب موظفي القطاع العام ومستلزمات الجيش والقوى الامنية). ولكن الوضع سيكون مختلفاً بدءاً من تشرين الاول المقبل، حين سيكون السوق قد هضم الفائض الدولاري، وتوقف التدفق من السياحة، وكذلك قد لا يتم ضخ اي دولار عبر «صيرفة»، على اعتبار ان شرط الضخ عبر هذه المنصة هو عدم تعرّض المركزي لخسائر. وفي هذه الحالة، من المرجّح ان يضطرب سوق الصرف، ونعود الى نهج الارتفاع غير المضبوط في سعر العملة الخضراء. وما لا يعرفه الجميع حتى الان، انّ حقوق السحب الخاصة (SDR) التي كشف بيان المركزي قبل 10 أيام انها تدنّت الى 125 مليون دولار، من مليار و138 مليون دولار، عادت وتراجعت اليوم الى 78 مليون دولار بعدما استخدمت الدولة من هذه الحقوق مبلغ 47 مليون دولار في 21 آب الجاري. وبالتالي، قد لا يكون مستبعداً أن تلجأ «الدولة» الى تكبير الكتلة النقدية بالليرة لدفع مستحقات، او تسديد عجز، بما سيزيد المخاطر على سعر الصرف، وقد يعرّض الليرة الى نكسة تفوق في تداعياتها، ما حصل حتى الآن.