لا يمكن النظر إلى قرار وزير الاقتصاد والتجارة بالسماح لقطاع السوبرماركت بتسعير الرفوف بعملة الدولار الثابتة، الّا كجزء من اتجاه عام لدولرة الاسعار، بما يتوافق مع القوانين الاقتصادية التي تحكم نظام القيم وتداولها وتعظيمها، من خلال الانتاج والتجارة.
ينطبق ذلك ايضًا وبشكل ملفت على تسعير الخدمات الحكومية والضرائب، بعد إنشاء منصة صيرفة واعتبار سعر الصرف المحدّد بموجبها مرجعاً لتسعير العديد من الخدمات العامة من بينها فواتير الهاتف الخلوي والداتا والكهرباء واستيفاء الرسوم والضرائب بعملة سدادها.
في أي حال، لا يمكن النظر إلى اتجاه الدولرة سوى عبر الاعتراف بأنّ الليرة لم تعد قادرة، في ظل تعدّد اسعار الصرف مهما بلغت، على لعب دور العملة بصفتها الوظيفية المثلثة: حافظ القيمة، وحدة احتساب ووسيط تبادل. وإذا كان يمكن النقاش في كون الليرة ما زالت تحتفظ بدور وسيط التبادل في بعض الاسواق خصوصاً في سوق العمل والضرائب والرسوم، فالليرة قد غادرت منذ العام 1984 دورها كوحدة حساب، حيث انّ الدولرة الضمنية كانت طاغية في حساب التكاليف والاسعار منذ ذلك التاريخ، مروراً بسنوات استقرار الليرة بعد الحرب حتى يومنا هذا. أُضيف للاعتبار الاخير، انهيار العملة الوطنية منذ صيف العام 2019، لتفقد بالتدريج دورها كحافظ للقيمة.
انّ خروج الليرة المتدرج من وظائفها هو ايضاً نتيجة للعجز عن تحرير سعر صرفها وتكبيلها بتعدّد جبري لأسعار السوق، لا يتوافق مع المنطق الاقتصادي ومصلحة اللاعبين الاقتصاديين. بهذا المعنى لا يمكن النظر بغرابة إلى موضوع السماح لمراكز البيع الكبرى بالتسعير بعملة ثابتة.
يسمح ذلك اولًا بتقليص مخاطر التسعير على كلفة الانتاج في ظل تقلّبات سعر الصرف اليومية، كما يسمح بالحفاظ على استقرار حجم الاستثمار في الرأسمال العامل من نقدية ومخزون وتأمين التوازن القيمي بين الاصول الجارية والخصوم الجارية في ميزانيات مراكز البيع.
المشكلة في هذا النوع من التسعير انّه لا يراعي عناصر الكلفة من غير كلفة البضاعة المباعة التي تدخل في احتساب اسعار الرفوف النهائية.
فإذا كانت المؤسسة ستقوم بتسعير بضائعها بناءً لمبدأ الكلفة زائد الهامش الربحي، بما في ذلك، ما تدفعه بالليرة اللبنانية او بسعر اقل من سعر السوق الحر (السوق السوداء)، واحتسبت هامش الارباح وقامت بالتسعير، فما الذي سيحصل عند أي ارتفاع اضافي لسعر صرف الدولار الحر؟
في الواقع، سوف يشكّل ذلك فرصة لمراكز البيع للإبقاء على اسعارها المدولرة والمزيد من تعظيم ارباحها على حساب الكلفة الحقيقية للخدمات المؤداة بالليرة اللبنانية. هذه الخدمات تتصل اساساً بالاجور ولواحقها المؤداة بالليرة، ولكن ايضًا بفواتير الكهرباء من مصدر كهرباء لبنان والهاتف والماء والرسوم البلدية والكثير من انواع النفقات التي ما زالت تؤدى بالليرة اللبنانية، يشمل ذلك فواتير الهواتف الخليوية والداتا التي تُسدّد على سعر صيرفة البعيد نسبيًا، عن عملة تسعير الرفوف.
حسناً، هناك من يقول انّه بسبب قانون المنافسة وتقلّص حجم السوق سوف تعمد مراكز البيع لتخفيض اسعارها بالدولار مع كل تخفيض بالكلفة، للحفاظ على زبائنها وتوسيع قاعدتهم على حساب صغار التجار وباقي الاقران المنافسين.
يحتاج هذا الكلام إلى الكثير من طيبة القلب لتصديقه، وإلى قلة إدراك بقوانين المنافسة الاحتكارية التي تميّز عمل هذا القطاع. هذا قطاع لديه شبه نقابة، وهو يعمل بناءً للمصالح المشتركة لعدد قليل من العارضين، رغم هوامش المنافسة التي تسمح بها طبيعة السوق وضرورات تمييز المؤسسات عن بعضها.
لا يمكن الرهان على قوانين المنافسة لتبرير صحة التسعير بالدولار، طالما لا توجد دولرة شاملة للاقتصاد او تحرير شامل للاسعار، وبخاصة دولرة اسعار العمل او ايجاد سلم متحرّك لتقويمها مربوط بمعدلات التضخم الشهرية.
بحسب مقياس «فوربس» المرجعي، فإنّ قطاع المفرّق الكبير يتمتع بنسبة اجور إلى مجموع المبيعات تبلغ (12.6%)، اي انّ هذا القطاع ورغم انّ النسبة في لبنان قد تكون أدنى بسبب انهيار الاجور، يمتلك حرية تحقيق ارباح اضافية مع كل انهيار اضافي في سعر الصرف، تشمل مساحة مشكّلة من نسبة وازنة من عناصر الكلفة.
ربما كان على وزارة الاقتصاد ان توجد معادلة أكثر حوكمة وأكثر عدالة وأكثر واقعية لتحديد سعر الرف العادل. ولماذا لا يكون هناك منصة خاصة لأسعار مواد الاستهلاك (على غرار منصة صيرفة او جزء من متحورات هذه المنصة) تقوم على معادلة تفرّق بين طبيعة الأكلاف، بما يحمي رساميل وارباح مراكز البيع دون تعريض المستهلك لأعباء اضافية؟