Site icon IMLebanon

جنون الدولار وهستيريا “التيتانيك”

 

 

عاد الدولار إلى الصعود بشكل جنوني. الليرة تنهار وتنهار معها كل معالم الحياة الكريمة. ليس في الأمر مفاجأة، المفاجأة هي أن يستغرب مَن في السلطة هذا التفلت للعملة الخضراء، وهم المطّلعون على الأرقام والوقائع بما فيها المفاوضات الدائرة مع صندوق النقد. أسباب ارتفاع سعر الصرف ليست ظرفية ولا نتيجة ألاعيب الصرّافين أو المضاربين، إنما تتعلق بالأساسيات الإقتصادية لا سيما عجز ميزان المدفوعات واستنزاف احتياطي العملات الأجنبية في المصرف المركزي.

 

لا أحد ينكر المضاربات، وهي ممارسات أكثر من متوقعة في ظل تعدد أسعار الصرف وغياب الشفافية في آلية عمل “المنصة”، التي كان من المفترض أن تمرّ من خلالها كل عمليات العرض والطلب من دون قيود ولا إستنسابية. ولكن على رداءتها، هذه المضاربات لا تفسر هذا الإرتفاع الحاد في سعر الصرف. هي مجرد قميص عثمان، لمن لا يدرك أو لا يريد أن يرى.

 

السبب الأول يعود إلى ارتفاع الطلب على الدولار نتيجة ارتفاع فاتورة الإستيراد في بلد يستورد 90% من حاجياته. أسعار السلع والمواد الأولية ترتفع في شكل مضطرد عالمياً نتيجة تفاقم الأزمات. حرب أوكرانيا بتداعياتها العديدة ألهبت أسعار الطاقة والقمح والمعادن، في لحظة كانت الحكومات في الدول الصناعية لا تزال تلملم الآثار التضخمية لجائحة كورونا. موجة الجفاف التي تهدد المحصول الزراعي في الهند والتي دفعت هذه الأخيرة إلى إيقاف صادراتها من القمح، زادت أيضاً من حدّة الأزمة. إضطراب سلاسل التوريد والحرب التجارية القائمة بين واشنطن وبكين، كلّها عوامل تضخمية تعمّق الفجوة في ميزان مدفوعاتنا، وما من قمح نزرعه، وغازنا عالق في قعر البحر ينتظر الضوء الأخضر في الإقليم.

 

هكذا و أمام الكساد المستشري عالمياً يقف البلد الصغير مغلوباً على أمره، يحصي الأزمات التي تأتيه من الخارج، وما في اليد حيلة، وكأن ما لديه من أزمات لا تكفيه. فبالإضافة إلى الإنسداد السياسي الحاصل والذي لا يشي بقرب تشكيل حكومة وإطلاق برنامج إنقاذي مع صندوق النقد، يفقد مصرف لبنان يوماً بعد يوم القدرة على ضبط انفلات العملة الخضراء نتيجة تلاشي إحتياطيّه. نفذت عملية الهروب إلى الأمام من خلال دعم الليرة الذي قام به مصرف لبنان منذ بداية العام، خارج أي خطة متماسكة من شأنها أن تعزز الإنتاج وتساهم في إعادة تكوين إحتياطيّه. ونفدت معها السيولة وهي ما تبقّى من أموال المودعين اي الإحتياطي الإلزامي، تضاف إليها أموال السحوبات الخاصة المحوّلة من صندوق النقد (1.13 مليار دولار) والتي استنفدت أيضاً في إطار سياسات الدعم.

 

أما العامل الثالث الذي ساهم في الصعود الهستيري للدولار، فهو جوّ الإحباط وانعدام الثقة الذي يلف البلاد في الفترة الأخيرة والذي لم تستطع الإنتخابات الأخيرة رغم التغيير الذي أفرزته في موازين القوى أن تبدّده. فتصاريح الأقطاب، وخطابات “الإنتصار” التي تلت إعلان النتائج، أعادت القديم إلى قدمه، وأعادت إحياء مشهدية نظام التعطيل والمحاصصة، وبالتالي شكّلت نكسة للرأي العام التوّاق إلى التغيير. وما يزيد الطين بلّة ويضرب الثقة بالعملة الوطنية وبركيزتيها، أي القطاعين المصرفي والمالي، هي تلك السجالات المستفحلة بين الحكومة والمصارف، وبين المصارف ومصرف لبنان والتي تدور حول كيفية توزيع الخسائر وتحديد المسؤوليات. هكذا إنتقلت عدوى نظام المحاصصة، بممارساته، من تراشق إعلامي واتهامات متبادلة، إلى القطاع المصرفي ومصرف لبنان وللوزراء “التقنيين” في الحكومة. كل يصرخ لنفسه… كل يسعى للنفاذ بريشه… إنها الساعات الأخيرة لمركب يهوي قبل الغرق الأخير.