لم “يطلع الضوء” على قرار الصرّافين بالتوافق مع حاكم المصرف المركزي على “تثبيت سعر شراء الدولار على ألفي ليرة كحد أقصى”، ابتداءً من تاريخ 22 كانون الثاني. الصرّافون عمدوا في اليوم الأول إلى شراء الكميات القليلة من الدولار على سعر 2000 ليرة وفاوضوا على سقف أعلى بالنسبة إلى المبالغ الكبيرة، فيما توقف معظمهم عن بيع الدولار بشكل رسمي. ليعود وينخفض في الأمس سعر الصرف إلى 2200 ليرة بشكل عام.
محلّات الصيرفة التي كانت تشهد زحمة كبيرة في الأيام الماضية، تبدو في ثاني أيام بدء سريان القرار شبه خالية. المواطنون أحجموا عن البيع بسعر 2000 ليرة، لقناعتهم بأن هذا السعر غير منطقي، أمّا الصرافون فامتنعوا عن بيع الدولار على سعر 2100 أو 2200 للعديد من الاعتبارات، منها: شراؤهم كميات كبيرة من الدولار قبل أيام على سعر مرتفع وصل إلى حدود 2500 ليرة، ولقناعتهم بان هذا السعر غير عادل وسيرتفع حكماً في المستقبل القريب.
السوق الثالثة
السوق الثالثة لتبادل الدولار، والتي يجري تسويقها على أنها “السوق السوداء” ظهرت فور إعلان القرار.
وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون بان هذه “السوق” هي مكان مظلم يقع في منطقة نائية بعيدة عن الأعين، يقول مروان، أحد المغتربين الذي صادف انه أراد صرف ما يحمله من دولار إلى ليرة ان “السوق السوداء هي نفسها محل الصيرفة”، وبحسب مروان فإن “شخصاً يقف خارج منضدة الصرّاف دعانا إلى الخروج من المحل لكي يشتري منا مبلغاً كبيراً من الدولار بسعر أعلى، ذلك بعدما رفضنا البيع على سعر 2000 ليرة. وعندما سألناه كم هو السعر؟ اجاب: (ما بتكونوا غير مبسوطين)”.
“التثبيت” ليس صائباً
هذه الواقعة التي تكررت في أكثر من محل تشير بحسب أحد المسؤولين الذي فضل عدم الكشف عن اسمه إلى ان “القرار بتثبيت سعر الصرف ليس صائباً لأنه غير قابل للتنفيذ. وإذا كان لا بد لهم أن يضعوا الضوابط، فلماذا لم يثبتوا سعر الصرف على 1500 ليرة بدلاً من 2000؟”.
مثله مثل أي سلعة أخرى يتحدد سعر الدولار بحسب آليات السوق. ولا حل بتراجعه فعلياً أو استقراره عند مستوى معين إلا من خلال الموازنة الدقيقة بين العرض والطلب. في الحالة اللبنانية يعتبر المصرف المركزي الجهة الأقدر والأفعل على التدخل في السوق بائعاً للدولار. وهو لطالما لعب هذا الدور في أوقات الأزمات وتحديداً قبل العام 2011، عندما كان يملك كميات من الدولار بسبب الفائض المحقق في ميزان المدفوعات.
اما اليوم ومع العجز المستمر في ميزان المدفوعات واستنزاف الدولة لإحتياطي الدولار، لم يعد “المركزي” قادراً على التدخل، فانهار سعر الصرف.
مصادر الدولار
ويرى الخبراء أن من الممكن الحدّ من التدهور الدراماتيكي لسعر الصرف رغم ضعف قدرة “المركزي” على التدخل من خلال زيادة عرض الدولار من مصادر مختلفة. لكن هذه الخطة تتطلب توفر العديد من العناصر، التي ما زالت لغاية الساعة بعيدة المنال، ومنها:
– البدء بإصلاحات فعلية ومكافحة الفساد والتوقف عن هدر المال العام… عوامل من شأنها إعادة الثقة بالدولة وعودة ضخ الاموال والاستثمارات الأجنبية في مختلف القطاعات.
– زيادة الصادرات عبر دعم الصناعة والزارعة الوطنية، على عكس ما يحصل اليوم من تقييد للصادرات وعدم فتح الاعتمادات.
– تأمين الإستقرار الداخلي للتشجيع على عودة السياح.
– إتباع سياسة النأي بالنفس فعلاً لا قولاً، وتحييد لبنان عن صراعات المنطقة.
أما في ما يتعلق بالكفة الأخرى لآلية السوق، والتي تتعلق بالحد من الطلب على الدولار، فهي تتطلب عودة الثقة، تخفيف فاتورة الإستيراد، وتأمين الإستقرار… وهي بدورها عوامل من الصعب ان تتحقق في ظل هذه الظروف.
امام هذا الواقع يبدو ان الطلب على الدولار سيبقى أكثر من العرض، وهو ما يُحتّم ارتفاع سعره واستحالة تثبيته عند حد معين في السوق الثانوية عند الصرافين. أما في حال إجبارهم على البيع بسعر محدد وإجبارهم على التقيد بالتسعيرة “تحت طائلة إنزال العقوبات الإدارية والقانونية بالمخالفين من قبل السلطات المعنية”، فهذا من شأنه خلق السوق الثالثة الحقيقية للدولار وليست “السوداء”… بل الأكثر سوءاً وسواداً.