IMLebanon

مع استقرار العملة وسط الحرب: هل الخروج من الدولرة لا يزال ممكناً؟

 

 

وسط الأجواء الضاغطة من اللااستقرار، بل معالم الحرب المتدحرجة، يلفت أنظار الكثيرين استمرار استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية الذي يوحي أنّه لا يزال ممكناً الخروج من الدولرة… إلامَ تشير التجارب الدولية؟ أي شروط يفترض تحقيقها قبل البحث باستعادة الثقة بالعملة الوطنية والخروج من دوامة الدولرة، لا سيما منها المرتفعة؟

بعد الحرب اللبنانية (1975-1990) في عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم Free Floating. لذلك، وبعد اعتماد نظام ربط زاحِف حتى الانتقال عام 1998 إلى Crawling peg، اعتمدَ على تخفيض سعر الصرف تدريجاً حتى تطبيق الربط التقليدي لنظام عملة واحد مُلزم Conventional soft peg to one currency LBP إلى USD بسعر 1501-1514 بمتوسط 1507.5 منذ 1997.

 

تؤكّد الأدبيات الاقتصادية في جميع المنشورات الدولية في السياسة النقدية للبلدان المدولرة من ميشكن وسافاستانو (2001) مروراً بكالفو وفاك (2002)، كالفو وميشكن (2003)، غارسيا وسوتو (2004)، أوسيتفيلد (2006 و2008، 2009)، إينشغرين (2007 و2008 و2009)، كالفو (2008)، اللييغريت (2011، 2015) وهوسمن (1999، 2000) وبونسو في مختلف منشوراته عن البلدان المدولرة جداً (2005… 2019) وجميع تقارير صندوق النقد الدولي والنظريات حول سياسات المصرف المركزي، أنّ السياسة النقدية التي لا يمكن أن تكون فعّالة في ضبط الكتلة النقدية، لأنّ معظم السيولة المتداولة هي بالدولار الأميركي وليس بالعملة الوطنية، ما يُحتّم الانتقال إلى ضبط سعر الصرف…

 

وهذا بالأساس سبب الانتقال من نظام سعر الصرف العائم إلى الربط المَرن في لبنان عام 1993 نظراً للمستوى المرتفع الذي بلغته الدولرة وتأكيد تقرير الاقتصادي مولير (1994) أنّ الدولرة في لبنان تعكس حالَ هيستيريا يَستحيل تخفيضها حتى بعد تعافي الاقتصاد… وهذه هي العبارة نفسها التي وردت في تقرير البنك الدولي في تشرين الثاني 2022 عن لبنان، بالتأكيد على الطابع الثابت للدولرة وغير القابل للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصاد اللبناني بعد الانهيار الذي أسقطَ منذ العام 2019 القدرة على الحفاظ على الربط المَرِن لسعر الصرف.

 

علماً أنّ معظم البلدان التي تشهد حالات مماثلة تكون قد عرفت حرباً أو أزمة هوية ونزاعات سياسية حادّة وصراعات تفقد الثقة بالمناخ الاستثماري فيه، وتجعل العملة الوطنية هشّة، وهي معظمها أيضاً بلدان صغيرة الحجم منفتحة الأسواق ويطغى فيها قطاع الخدمات ويَتَّكِل فيها ميزان المدفوعات على اجتذاب الرساميل أكثر منه على حجم التصدير…

 

إنّ تخفيض الدولرة كان يفترض أن يحصل في فترة الاستقرار النقدي الاقتصادي السياسي والأمني… أمّا وأنّ سعر الصرف حافظ على مستواه على الرغم من الاهتزاز الامني، وبعد أن بلغت الدولرة ذروتها، فهذا لا يعني إمكانية الخروج من الدولرة! بل إنّ الدولرة شبه الشاملة نفسها هي التي ساهمت بالاستقرار لشح السيولة المستخدمة بالليرة اللبنانية.

 

كان يمكن البحث بالموضوع وفق استراتيجية مدروسة مع وجود احتياطات فعلية من الدولار في البنك المركزي أو بعد حصول صدمات إيجابية، لكن حتى وَقتذاك لم تَزدْ ثقة الناس بالليرة اللبنانية وبقيَت معدّلات الدولرة تفوق 70%. فكيف اليوم؟

 

غالباً ما يكون الحجم الإجمالي لتدفقات العملات الأجنبية – المرتبطة بالمعاملات الجارية وحسابات رأس المال – بدلاً من درجة حرّية حركة الرساميل، هو المحرّك للمراجحة بين أسواق المال وأسواق العملات الأجنبية، ما يؤدّي بدوره إلى تشكيل طبيعة انتقال النقد. الصدمات الخارجية يمكن أن تكون صدمات الميزان الجاري أو ميزان الرساميل، ويمكن أن تكون للبلد حرّية حركة الرساميل من دون أن يعني ذلك حتماً إمكانية تدفّقها إليه.

 

من ناحية أخرى، حتى عندما تكون حركة الرساميل مقيّدة نسبياً، فإنّ قدرة البنك المركزي على التحكّم بالفائدة يمكن أن تكون صعبة، خصوصاً عندما تكون احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة، ويكون الاقتصاد معرّضاً إلى صدمات كبيرة في شروط التجارة والعملات، فيكون الخيار الأمثل باعتماد سعر صرف يتماهى مع طبيعة الصدمات – سواء كانت فعلية أو إسمية – ودرجة حرّية حركة الرساميل.

 

وفق علم السياسة النقدية تتطوّر الدولرة عموماً عندما لا تؤدّي العملة المحلية أداءها الأساسي لوظائفها كما يجب، مقارنةً بالعملات الأخرى التي يمكن الوصول إليها. الوظائف الأساسية للعملة هي القيمة الاحتياطية، ووسائل الدفع، ووحدة الحساب.

 

عادةً، يتطلّب إلغاء الدولرة مجموعة من سياسات الاقتصاد الكلي والسياسات تَطال تدابير الاقتصاد الجزئي، لتعزيز جاذبية العملة المحلية مقابل العملة الأجنبية. وعلى خلفية استقرار الاقتصاد الكلي، تمّ اتخاذ تدابير عدة يمكن أن تعزّز إلغاء الدولار. وتتراوح بين التدابير القائمة على السوق والتي توفّر الحوافز لعكس استبدال العملة، إلى التدابير التي تحظّر أو تحُدّ بشكل صارم من استخدام العملات الأجنبية العملة (إزالة الدولار قسرياً).

 

يتمّ تسهيل عملية التخلّص من الدولرة من خلال التسلسل السليم للسياسات وتدابير الاقتصاد الجزئي. ومن الممكن أيضاً أن يتمّ التخلّص من الدولرة بالتوازي مع سياسات الاستقرار الشامل.

 

وفي كلتا الحالتَين، يتعيّن على صنّاع السياسات أن يأخذوا في الاعتبار المخاطر، بما في ذلك هروب رؤوس الأموال، عدم الوساطة وعدم استقرار القطاع المصرفي.

 

الخطوة الأولى نحو التخلّص من الدولرة هي تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، مع التركيز على تخفيضٍ موثوق للتضخّم واستقراره. وتشمل سياسات الاستقرار المالية وتوحيد السياسة النقدية وتشديدها بشكل مناسب لخفض معدل التضخم.

 

خلال الدولرة ومع إلغائها، قد تهدف السلطات إلى استعادة رسوم سك العملات، وتكييف كمية تداول العملة الوطنية مع الاحتياجات المحلية، وإدخال نظام أكثر مرونة لسعر الصرف في نهاية المطاف، أو التخفيف من المخاطر التي تهدّد الاستقرار المالي.

 

توفّر توقعات ارتفاع قيمة العملة المحلية رهاناً أحادي الاتجاه لاقتراض العملات الأجنبية، ممّا يدعم الطلب على القروض بالعملة الأجنبية. طالما أنّ المصارف تستفيد من سهولة الوصول إلى التمويل الأجنبي (تدفق رأس المال)، فإنّها ستستفيد أيضاً من ارتفاع قيمة العملة المحلية من خلال الحفاظ على مركز مفتوح قصير الأجل، وتشجيع الإقراض بالعملة الأجنبية.

 

قد يساعد إدخال متطلبات الاحتياطي الالزامي، والودائع الدائمة وتسهيلات الإقراض وعمليات السوق المفتوحة، في استقرار الاقتصاد المحلي وسعر الفائدة بين المصارف.

 

كما أنّ ضبط الأوضاع المالية يمكن أن يساعد في تقليل الحاجة الحكومية للاقتراض بالعملة الأجنبية، بالتالي تقليل دولرة الحكومة بشكل مباشر لالتزاماتها. كما أنّه يقلّل من الحاجة إلى تمويل البنك المركزي للديون الحكومية، ممّا يساهم في تقليل الفرق بين أسعار الفائدة المحلية والأجنبية.

 

كما أنّ نظاماً ضريبياً لا يتعامل مع الدخل من العملات الأجنبية بأكثر فائدة من الدخل من العملة المحلية، لن يخلق تحيّزاً تجاه الاحتفاظ بأصول بالعملة الأجنبية.

 

فضلاً عن ضرورة إدارة نَشطة للدين العام تهدف إلى إصدار سندات محلية ومن شأن السندات المقومة بالعملة (إذا لزم الأمر، مع مؤشر التضخم) أن تؤدّي إلى إلغاء الدولرة في الميزانية العمومية للحكومة، وتعزيز سوق الأوراق المحلية، والسماح بالمزيد من المرونة في سعر الصرف.

وفي ظل غياب الثقة بالعملة المحلية الأصول المقومة بالعملة، فإنّ وجود نظام ربط موثوق به يمكن أن يعزّز الاستثمارات في مثل هذه الأصول. إنّ تحرير البنوك من الضوابط الإدارية على تحديد أسعار الفائدة يجعل من الأرجح أن تصبح أسعار الفائدة الحقيقية المحلية إيجابية، ممّا يساعد في تعزيز استخدام العملة المحلية.

 

ويجب أن تعمل الحكومة بالعملة المحلية إلى أقصى حَدّ ممكن، عبر زيادة الضرائب بالعملة المحلية التي يمكن أن تدعم زيادة الطلب على هذه العملة، وكذلك المدفوعات العامة للأجور والسلع والخدمات من خلالها.

 

في حين أنّ استخدام المساعدات الأجنبية بالعملة المحلية – المساعدات الخارجية إذا تمّ استخدامها بالعملة الأجنبية في البلد المتلقّي قد يزيد من الدولرة. في البلدان الصغيرة أو في مرحلة ما بعد الصراع، والتي غالباً ما تكون على درجة عالية من الدولرة، يمكن للمساعدات الخارجية أن تؤدي دوراً كبيراً في الاقتصاد.

 

ويجب أن يضمن نظام المدفوعات المحلي العملة المحلية المدفوعات بشروط مؤاتية على الأقل، مثل تلك المتعلقة بالعملة الأجنبية المدفوعات. كما لا ينبغي إعطاء الأفضلية لحاملي العملات الأجنبية على أولئك الذين لديهم فقط إمكانية الوصول إلى التمويل بالعملة المحلية.

 

ولا يوصى باتخاذ تدابير لفرض سياسة إلغاء الدولرة بمعزل عن تلك التدابير القائمة على السوق. العديد من التدابير المذكورة أدناه تنطوي على التدخّل في العقود الخاصة، غالباً بمفعول رجعي، ويمكن أن تقلّل من ثقة المشاركين في السوق في حماية حقوق الملكية.

 

يبقى القول إنّه بغضّ النظر عن سلسة العوامل المذكورة ومدى إمكانية وفعالية اعتمادها في لبنان، من الضروري التنبّه إلى أنّه كلما كانت مزمنة في الاقتصاد ودرجتها مرتفعة واعتمادها يشمل مختلف وظائف العملة الوطنية ويتفشّى في الاقتصاد الوطني، كلّما صَعب التخلّص منها… وهذا هو الحال عموماً بالنسبة إلى أي تدابير إدارية قد تهدف إلى الحَدّ من الدولرة.