فاخَر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بأنّ من إنجازات عهده، «اقتلاع خلافة «داعش» من جذورها»، وقَتل أميركا مؤسِّس التنظيم وقائده أبو بكر البغدادي. لكنّ «داعش» عاد ليطلّ برأسه في سوريا والعراق مع تغيير الإدارة الأميركية.
لم يسجّل «داعش» الخسائر الكبيرة إلّا بعد انقضاء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما ونائبه الرئيس الحالي جو بايدن، وإمساك ترامب بزمام السلطة، وتحديداً في عام 2017 حين خسر «داعش» الكثير من الأراضي في سوريا والعراق وليبيا… وفقد سيطرته على مدن رئيسة كان قد احتلّها وأعلن فيها «دولة الخلافة» عام 2014.
لكن على رغم القضاء على «الخلافة» في آذار 2019، لم يتوقف عناصر هذا التنظيم عن الظهور بين الفَينة والأخرى لتنفيذ عمليات إرهابية طالت في معظمها قوات النظام السوري على تخوم البادية حيث يتوارى «الدواعش».
كما لم يوفّر العديد من المسؤولين الغربيين مناسبة لتأكيد أنّ «داعش» لا يزال يمتلك خلايا نائمة يمكن أن تتحرّك في أي وقت.
وها هي تعود حالياً إلى الواجهة مع تكثيف «داعش» هجماته منذ الشهر الفائت، وتنفيذه سلسلة كمائن استهدفت حافلات عسكرية لقوات النظام شمال سوريا، حاصدةً أكثر من 100 عنصر منها ومن الموالين لها. ووُصِف أحد هذه الهجمات بـ»الأكثر دموية» منذ إعلان «قوات سوريا الديموقراطية»، المدعومة من واشنطن، نهاية «الخلافة».
ولم تقف الهجمات عند حدود سوريا بل طالت العراق المجاور بتفجيرين انتحاريين خلّفا 32 قتيلاً، في أكبر محصّلة لتفجير يهزّ بغداد منذ 3 سنوات، وتبنّاه «داعش» أيضاً.
تزامنت هذه الهجمات مع انقضاء ولاية ترامب وعودة الديمقراطيين للإمساك بزمام السلطة، في حين كان «داعش» قد استفحَل في عهدهم باسطاً نفوذه على مناطق شاسعة.
وفي ظل هذه التطورات، حذّرت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي من «عودة ظهور داعش» في العراق وسوريا، في حين تمشّط القوات الروسية البادية بحثاً عن أوكار الدواعش لاستهدافها بالغارات دعماً لقوات النظام.
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية والدراسات الإسلامية في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور أحمد موصللي، في حديث لـ»الجمهورية»، أنّ «داعش وجبهة النصرة وغيرها أدوات لأنظمة ومخابرات إقليمية ودولية توظّفها عند الحاجة». ويلفت إلى أنّ «تغيير الإدارة الأميركية من ترامب إلى بايدن دفعَ الكثير من الدول الداعمة لهذه الجماعات الإرهابية إلى إعادة تنظيم الشبكات المتصلة بها».
ويوضح أنّ «التوجّه الأميركي العام حالياً هو نحو عودة الانفتاح على إيران وإعادة التفاوض على الملف النووي، ما يدفع بدولٍ في الخليج العربي، بالإضافة إلى إسرائيل ومصر وحتى تركيا، إلى إعادة تشغيل تنظيمات مثل جبهة النصرة وداعش، مع العلم أنّها موجودة على الأرض في العراق وسوريا ولبنان، ولهذه الدول ارتباطات معها». ويلفت إلى أنّ «الهدف من إعادة تشغيلها هو إيصال هذه الدول رسالة مفادها أننا موجودون وليست الساحة لإيران فقط، بل يمكننا القيام بعمليات انتحارية وبالقتل والتفجير والتهجير كما يحصل في سوريا، كما يمكننا تحريك الشارع السنّي في مناطق معينة على غرار ما يحصل في لبنان».
ويشير موصللي إلى أنّ «كل طرف يريد أن يحافظ على موقعه الاقليمي»، ويصارع لكي لا تأتي التسويات على حسابه، مؤكداً أنّ «الصراع على أشدّه حالياً بين الدول الإقليمية على مَن سيفوز برضى الأميركيين، فيعتبرون أنه الأساس في المنطقة». ويلفت إلى أنّ «الخوف من ايران يُرعِب الكل، ما يسمح مجدداً بتحريك هذه الجبهات».
الدور الأميركي
إنّ تكثيف العمليات الانتحارية بتوقيع «داعش» منذ الشهر الفائت تزامنَ أيضاً مع الذكرى السنوية الأولى لمقتل القائد الكبير في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني بضربةٍ أميركية في بغداد، وتصويت البرلمان العراقي، رداً على الحادثة، على الخروج الأميركي من العراق. وفي حين يشكّل ذلك مطلباً إيرانياً أساسياً، كثّفت الميليشيات المدعومة من إيران هجماتها الصاروخية على المصالح الأميركية في بغداد، مُهددةً بالثأر لسليماني، بهدف الضغط على القوات الأميركية وحثّها على الانسحاب.
فهل تلعب واشنطن بقيادة الديمقراطيين ورقة عودة «داعش» إلى الساحة العراقية بهدف تبرير وجود قواتها المعروفين بالتحالف الدولي لمحاربة «داعش»، خصوصاً أنها لا تنوي الخروج نهائياً من سوريا والعراق وترك الساحة لإيران؟
وهل إنّ ترامب، الذي وعد بإخراج الجنود الأميركيين من حروب المنطقة «التي لا تنتهي»، حاربَ هذه المجموعات الإرهابية لينفي ذريعة وجود قواته، وحالياً يريد الديمقراطيون الابقاء على هؤلاء الجنود وزيادة عددهم، فيُعيدون ذريعتَهم السابقة، ويسمحون بتقوية «داعش» ليبرروا بقاءهم لمحاربته؟
يُذكر أنّ «البنتاغون» كان قد أعلن منذ أيام أنّ القوات الأميركية في سوريا لم تعد مسؤولة عن حماية النفط هناك، بل إنّ واجبها الأوحد هو مكافحة «داعش»، معدّلاً بذلك أهداف كان ترامب قد حدّدها لهذه القوات.
ويشير موصللي إلى أنّ الأميركيين يدخلون في صلب قضية «داعش».
ويتساءل: «من سيقف في وجه الحشد الشعبي في العراق، خصوصاً أنه ليس مقبولاً حالياً من رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي المحسوب على الأميركيين؟». ويضيف: «إنّ تحريك داعش وغيره يقوّي نفوذ الكاظمي على حساب الحشد الشعبي المتحالف مع ايران».
ماذا عن لبنان؟
ويؤكد موصللي أنّ «الترتيبات نفسها تحصل في كل دولة»، ويرى أنّنا في مرحلة «البداية فقط»، إذ إننا قد نشهد المزيد من الخضّات الأمنية في لبنان وسوريا والعراق، لافتاً إلى أنّ الإدارة الأميركية الجديدة ستحتاج إلى أشهر لحسم توجّهها الجديد في المنطقة، وتزامناً ستستمر كل القوى الاقليمية بالضغط آملةً أن تُؤخَذ مصالحها بعين الاعتبار.
ويقول: «هذا يؤدي الى نوع من العمليات التفجيرية». ويشير إلى كلام اللواء عباس ابراهيم عن احتمال كبير لدخول «داعش» إلى لبنان، ويرى أنّ الجماعات الارهابية قد دخلت وهي موجودة في لبنان، لافتاً إلى أنّ 10 متسللين قادرون على إشعال مدينة كطرابلس. ويضيف: «نحن قادمون على خضّات كبيرة في الأشهر المقبلة، ولكن ربما تتغيّر الأحوال بعدها، ويُعاد ترتيب الأمور».
ويوضح أنّ «هناك خلايا مسطّحة موجودة دائماً. فالخلايا النائمة عادةً لا تكون معروفة، ولكن هذه الخلايا الموجودة معروفة من الأجهزة الأمنية التي تعرف تقريباً مكان تواجدها على الأراضي اللبنانية، إلّا أنه لكونها لا تتحرك يتركونها لكي لا يوقَظوا النعرات الطائفية والمذهبية، مع العلم أنها عندما تتحرك، فإنّ ذلك يكون على أسس سياسية».
ويشدّد على أنّ «الوضع مُقلق في لبنان لأنّ هذه الجماعات يتم تحريكها دائماً عندما تكون الدولة في مرحلة الصراع السياسي الكبير»، لافتاً كذلك إلى أنّ «الوضع الاقتصادي مهترىء، والوضع الاقليمي غير واضح المعالم، وسيبقى الخطر قائماً حتى تتبلور الأمور في المنطقة ومعالِم سياسة بايدن الجديدة».
مقتل كبار الإرهابيين
ومع تكثيف «داعش» لهجماته، تكثّفت الحملات للقضاء على رؤوسه. فقد أعلن العراق خلال الأسبوعين الفائتين مقتل 4 قياديين من الكبار في التنظيم، بينهم والي «داعش» في البلاد، ووالي جنوبها، على يد القوات العراقية المدعومة من التحالف الدولي، كما قتل والي شمال بغداد على يد «الحشد الشعبي»، فضلاً عن جهود الطيران الروسي في البادية السورية.
ويؤكد موصللي أنّ تحرك الخلايا المتهمة بالإرهاب يؤدي إلى رد فعل عليها من دول وقوات وجماعات، و«هنا يبدأ القتل والتفجير». ويضيف: «إنّ القوات الروسية، مثلاً، لا تريد أن يفصل «داعش» أجزاء من سوريا فتشنّ غارات قاسية عليه». ويلفت إلى أنّ «اسرائيل دعمت مثلاً «جبهة النصرة» لفترة طويلة في جنوب سوريا، ومَدّتها بالأكل والسلاح والاستشفاء والدواء وغيره، حتى تمنع النظام من الوصول الى هذه المنطقة القريبة من الأراضي المحتلة».
كذلك يشنّ «الحشد الشعبي» المدعوم من إيران في العراق «عمليات كبيرة ضد «داعش».
من جهتها، حذّرت الاستخبارات الإسرائيلية أمس الأول من تحرّكات لجماعات أخرى، مشيرةً إلى أنّ إيران تعتزم استغلال «أذرعها» في الشرق الأوسط، كـ«حزب الله» في لبنان والمقاتلين في سوريا وحلفائها في العراق واليمن وغزة، للضغط على واشنطن، من خلال الإعداد لهجمات «ضد أهداف غربية»، ما يجعلها في موقع قوة في مواجهة إدارة بايدن، وذلك بهدف إعادة التفاوض في شأن الاتفاق النووي.
تزامناً، يستمر شدّ الحبال حول مسألة «النووي» بين بايدن الراغب بالعودة إلى الاتفاق وبالتفاوض بعدها على اتفاق جديد يشمل صواريخ إيران البالستية، في مقابل رفض ايران لأي اتفاق جديد، ولأي تراجع عن التخصيب قبل رفع العقوبات عنها.
ويشير موصللي إلى أنّ مسألة «النووي» هي الأكثر تأثيراً في الساحة حالياً، خصوصاً أنّ اسرائيل ودولاً أخرى ليست راضية عن عودة بايدن إلى الاتفاق.
وبالتالي، يرى أنّ «الأوضاع متحركة جداً في دول المشرق العربي والخليج العربي، بالإضافة إلى اسرائيل وتركيا وايران، فهناك جبهات قد تشتعل بشكل كبير، وقد نشهد انفجارات كبيرة سواء من «داعش»، أو من «جبهة النصرة»، أو «الحشد الشعبي»، أوغيرها من القوات على الأرض».