«أذكّر الرئيس دونالد ترامب ومساعديه بكتاب «صناعة السلام» الشهير لـ«جورج ميتشل» الذي نشأ في أميركا بحضن مهاجرة مربية متوسطة الحال من آل سعد من قريتنا الكفير وهذه آخر قريةٍ في جنوبي لبنان الجريح وتكاد تُذكّرني بصراحة بوالدتك وفقاً لمؤلفك الشيّق والضخم: «ترامب بلا قناع» وبالقرية التي زرتها سيدي الرئيس في اسكوتلندا حيث نشأت هناك الوالدة رحمها قبل الذهاب إلى أميركا. فلنضع كتاب «صناعة السلام» لجورج ميتشل لربّما يلهمكم لله رئيساً مؤمناً يبيّض المكتب البيضاوي سلاماً، يبيّض وجه العالم المنتظر في بدايات ولايتك الثانية، وفّقكم لله».
يمكن الجزم بأن صور المذابح التي أعمت العيون العالمية المتدفٌقة عبر ساحات المعارك والشاشات في غزّة من فلسطين وجنوبي لبنان والضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت ومعظم البقاعات اللبنانية لا يمكن إحصاؤها أو حتى تصديقها أو متابعتها عربيّاً أو بشريّاً وكونيّاً على الأقل منذ يوم السبت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حيث استفاق العالم على ما عُرف بـ«حرب غزّة» بل طوفان من القتل والقتل المضاد والتهديم الجنوني لكأنها أيام القيامة، وسرعان ما انتقل الطوفان والطوفان المُضاد إلى لبنان بعد يومٍ واحد أي في الثامن من أكتوبر المساند لغزّة في ما يتجاوز الحبر وبجزر الدماء والتهديم للأبنية وللأحياء على رؤوس قاطنيها.
أيّ حربٍ هذه ومن يملك الطوفان والطوفان المُضاد غير خالق هذا الكون العظيم؟ إنّها بحور ومحيطات من صواريخ وطائرات وأسلحة ذكية تتجاوز طاقات الخيال البشري ولو أنها قد تُغري الأطفال الساكنين إلى «سبايدرمان» وقد طافت بهم مناظر البطش في الشاشات التي تحفل بها الألعاب بين أيديهم وفوق وجه العالم دماءً وأشلاء وحرائق وأحياء مهدّمة فوق رؤوس أهلها الذين بانوا دون وأدنى من أصغر الحشرات.
إنّها وكأنها «القيامة المُعاصرة» لـ«جنون الذكاء الإصطناعي» أو «القيامة الثابتة في الكتب المُقدّسة» بلا منازع حيث تعجز العيون والعقولٍ والنفوس على هضمها لكأن البشرية ومؤسساتها الفارغة السخيفة تتلذّذ كما أراها بساديةٍ حيوانية مُطلقة عجيبة غريبة هذا الصباح مجنونةً واقفةً على رجلٍ واحدة بانتظار «البطة العرجاء» إلى أن يستوي دونالد ترامب الرئيس الأميركي المُنتخب لولاية ثانية في العشرين من شهر كانون الثاني يناير 2024 فوق كرسيه في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض للولايات المتحدة الأميركية. يا لهذا المصطلح المذهل أعني «البطّة العرجاء» الذي يُشير إلى الوضع المترهل سياسياً وعالمياً الذي يبقي الرئيس السابق جو بايدن بصفاته الهرمة وضياعه البائن ووفقاً للقانون الأميركي يتمتع بكامل صلاحياته الدستورية حتى ذلك التاريخ ولو أنّ العالم سيبقى واقفاً على «صوص ونقطة» ولم تشبع فلسطين ولبنان من الجثث والخرائب التي تعيدنا إلى ما يتجاوز الحربين العالميتين. ويبدو اليوم مساوياً للعام بالنسبة للحيرة والذهول اللذين يسكنان البشرية في القرن الواحد والعشرين. إنّها تختصر بالصوت والصورة أساساً لما تمّت تسميته بـ«طوفان الأقصى» التي فاجأت إسرائيل والعالم بـ 3000 صاروخ من قطاع غزّة الذي تُسيطر عليه حماس باتجاه إسرائيل صباح التهيؤ لصلاة اليهود كما رددت وسائل الإعلام في العالم. لطالما كانوا يقصّون علينا أطفالاً في أقصى الجنوب اللبناني بـ«السبت اليهودي» حيث يفطر المسيحيون في صيامهم مثلاً ليندفع اليهود فيه للصلاة.
بدأ الهجومٍ منسّقاً ونوعيّاً فاجأت به حماس إسرائيل والعالم بما سُمي «طوفان الأقصى» في الثامن من أكتوبر 2023 باتت تنبع أساساً من القتل كان آخرها صباح أوّل من أمس في مخيّم جنين. لن يفقه أحد السبب والزمن والكيفية والنتيجة إلاّ بالسؤال: ماذا تفعل الشعوب المضطهدة عبر غابات الزيتون حين تُقلع من جذورها Roots بهدف بناء المستوطنات سوى مقاومة الأجيال العارية للجرافات وأحجار المطاحن؟ لم يفرز العقل الدولي عبر 75 سنة حبة طحين صالحة لعجنها بزيت القدس لتُلصق سلاماً فوق باب التاريخ الدامي الثقيل فتسقط الأوهام والتقارير الدولية بين إسرائيل والفلسطينيين توخّياً لفكّ عقدة هذا السلام المستحيل. وكأنّ العالم أدمن تلك التراجيديا المتعسّلة بالكوارث التي تقود إلى تجويف المقدسات في السماء لا في الأرض البشرية وحسب.
أمامي نص حرفي لتقرير «لجنة ميتشل» عن أوضاع الأراضي المحتلة. وضعته في 25 أيار 2001 لجنة شرم الشيخ لتقصّي الحقائق التي شُكّلت خلال «مؤتمر السلام في الشرق الأوسط»، لبحث أسباب العنف المتكرّرة والمفاجئة التي تندلع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من دون تهيئة، وأهم ما فيه مجموعة من التوصيات وسرد المسؤوليات لمنع تكرار وقوع هذه الأحداث، وفي رأسها مسألتان أو عقدتان واحدتان هما: المستوطنات والقدس. وهنا أطرح على دونالد ترامب سؤالان بانتظاره اليوم قبل الغد:
1- لماذا أذكّركم بجورج ميتشل (1972-1905) الذي أصرّ ولطالما كان مصرّاً على أنّ «النزاعات يصنعها البشر ويواصلونها وهم وحدهم القادرون على إيجاد حلولٍ نهائية لها أو وضع حدٍّ لها؟».
إنّه سياسي أميركي معروف إبن حارس مبنى فقير إيرلندي/ أميركي (تبنّته مهاجرة لبنانية هي ماري سعد أصلها من قريتي الكفير في أقاصي جنوبي لبنان قبالة جبل الشيخ أو جبل حرمون، وكان عمره خمس سنوات) ساعدته على إكمال دراسته في القانون وكان يعمل سائقاً وحارساً ليليّاً في الوقت نفسه ليبدأ حياته في ما بعد محامياً بارعاً ثم مدعيا عاما ثم قاضيا مشهوراً. شغل ابن قريتي الكفير خلال ولايتي جورج بوش وبيل كلينتون منصب الأكثرية في مجلس الشيوخ الأميركي (1989-1994).
كلّفه الرئيس الأميركي كلينتون، بعد تقاعده النيابي سنة 1995، بملف مفاوضات السلام في إيرلندا الشمالية، المهمة التي وصّفها في كتابه «صناعة السلام» بالأقسى والأنجح ليتابع من 1995 إلى 2000 رئيساً أوّل لمجموعة الأزمات الدولية وهي منظمة أميركية تعنى بتفكيك الأزمات في العالم. اعتبر الرئيس باراك أوباما ميتشل بأنّه صاحب «المواهب الخارقة في التفاوض» إثر نجاحه في التوصل لاتفاق سلام تاريخي في أزمات إيرلندا الشمالية الشديدة التعقيد، ولهذا أوفده في الـ2000 رئيساً للّجنة الدولية حول الشرق الأوسط التي حملت إسمه لإنهاء العنف المتكرر والمتمادي بين الإسرائيليين والفلسطينيين حيث وضع ميتشل تقريراً تمّ إهماله وشئت اليوم إحيائه لموضوعيته ومنطقه ولكونه كان جواز التحاقه أعني ميتشل في الـ2002 خبيراً مرموقاً بـ«مركز النزاعات الدولية» بجامعة كولومبيا.
2- ماذا في خلاصات تقرير ميتشل؟
أ- في المستوطنات: «تتحمّل حكومات إسرائيل وحدها مسؤولية المساهمة في إعادة الثقة. بات من الصعب جداً بل المضني دوليا وتاريخيّاً، المحافظة على وقف العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب إن تجمّد الحكومات الإسرائيلية أنشطتها في بناء المستوطنات، وعليها أن تُقرّر جيداً ما إذا كانت هذه المستوطنات هي نقاط احتكاكٍ حقيقية أو وسائل مهمة للمقايضة في مفاوضات مستقبلية أو أنها ستبقى مكامن استفزاز قادرة على أن تحول دون بدء أية مفاوضات مثمرة».
ب- في المختصر التاريخي: تمتّع إسرائيل منذ تأسيسها بدعم قوي كإبنة من الولايات المتحدة الأميركية بكونها الصوت العالمي الوحيد المؤيد لإسرائيل، ولكن حتى في العلاقات متينة إلى هذا الحد، كانت تقوم بعض دواعي الخلاف بيننا وبينها حول معضلة المستوطنات… أذكّر بما أعلنه جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية، عندما قال: «في كل مرة قصدت فيها إسرائيل لمهمة تتعلق بالسلام، كنت استقبل بإعلان عن نشاط استيطاني جديد. هذا انتهاك لسياسة الولايات المتحدة والعقل البشري، ومسألة الاستيطان هي أول مسألة يثيرها الفلسطينيون في أراضيهم الذين يعيشون في وضع بائس حقاً، كما يثيرها العرب. لا أظن أن هناك عقبة تعترض السلام أكبر من العقبة التي يشكّلها النشاط الاستيطاني الذي يستمر بصورة متسارعة». أنظروا ماذا يحصل في لبنان وجنوبه؟
«تمثل هذه السياسة، في جوهرها، يكتب ميتشل، سياسة كل الإدارات الأميركية خلال العقود المنصرمة»، وينتقد بإسهاب تركيا والنروج ودول الاتحاد الأوروبي حيال سياسة الاستيطان غير الشرعية في القانون الدولي المناهضة للاتفاقيات السابقة». ويتابع في تناول الأماكن المقدّسة، بأنه «لا يُعقل أن تتحول أماكن مثل الحرم الشريف/جبلا لهيكل في القدس، وقبر يوسف في نابلس، وقبر راحيل في بيت لحم إلى مسارح للاستيطان والعنف والموت والحروب، وهي أماكن سلام وصلاةٍ وتأمّل يجب أن تكون مفتوحة لكل الديانات».
صحيح أنّ لكلّ النزاعات حلولاً، لكنّ ميتشل ختم تقريره بكلمتين: «إنّ المشهد الدبلوماسي والسياسي في الشرق الأوسط سيكون حلّه أصعب بكثير من ملف إيرلندا الشمالية وكل الملفّات النزاع في تاريخ العالم، حتّى تحلّ الرؤى الإنسانية».
* مؤلف وأستاذ في المعهد العالي للدكتوراه
عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات البرلمانية